أنت طالق، ولم ينو تأكيدًا، ولا استئنافًا يُحكم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك، فحُمِل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد، فلما كان في زمن عمر - رضي الله عنه -، وكثُر استعمال الناس بهذه الصيغة، وغلب منهم إرادة الاستئناف بها، حُمِلت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملًا بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر.
وقيل: المراد أن المعتاد في الزمن الأول كان طلقةً واحدةً، وصار الناس في زمن عمر يوقعون الثلاث دفعةً، فنفذّه عمر، فعلى هذا يكون إخبارًا عن اختلاف عادة الناس، لا عن تغير حكم في مسألة واحدة.
وقد حقّق هذه المسألة الشيخ العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في "أضوائه"(١)، وطوّل نَفَسه فيها، فأجاد، وأفاد، وقد أحببت إيراده بطوله؛ لفوائده الغزيرة، وعوائده الكثيرة.
قال - رحمه الله -: وقال النوويّ في "شرح مسلم" ما نصّه: واحتَجَّ الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق: ١]، قالوا: معناه أن المطلِّق قد يَحدُث له ندم، فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيًّا، فلا يندم. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
قال الشيخ - رحمه الله -: ومما يؤيد هذا الاستدلال القرءاني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، من طريق مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فسكت، حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم، فيركب الأُحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، إن الله قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: ٢]، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.
وأخرج له أبو داود متابعاتٍ عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها من يتق الله، ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة، يجعل له مخرجًا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في