فمن الغريب أن يُسَلِّم منصف إمكان النسخ في إحداهما، ويَدَّعِي استحالته في الأخرى، مع أن كلًّا منهما رَوَى مسلم فيها عن صحابيّ جليل؛ أن ذلك الأمر كان يُفعل في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، في مسألة تتعلق بالفروج، ثم غَيَّره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة، وأحال نسخ جعل الثلاث واحدةً، يقال له: ما لبائك تَجُرّ، وبائي لا تَجُرّ.
فإن قيل: نكاح المتعة صح النصّ بنسخه، قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.
وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود - رحمه الله -، ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر، قال في "سننه": "باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث"، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس قال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}[البقرة: ٢٢٨]، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنُسخ ذلك، وقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية [البقرة: ٢٢٩].
وأخرج نحوه النسائيّ، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوقٌ يَهِمُ، وروى مالك في "الموطإ" عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعَمَد رجل إلى امرأته، فطلقها، حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك، ولا أطلقك، فأنزل الله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة: ٢٢٩]، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ، من كان طلّق منهم، أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر - رضي الله عنه - لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيقاع الثلاث دفعةً مع كثرتهم، وعلمهم، وورعهم، ويؤيده أن كثيرًا جدًّا من