أباحه، قال: ولَمّا لم يغيّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي جهم ما كان عليه من ذلك، كان في طريق الإباحة، وفيما قال من ذلك - والله أعلم - نظر، قال ابن وهب: ذمُّهُ لذلك دليلٌ على أنَّه لا يجوز فعله، ومن هذا قالت العرب: فلان ليّن العصا، وفلان شديد العصا، يقولون ذلك في الوالي، وما أشبهه، وقال الشاعر [من الطويل]:
لِذِي الْحِلْمِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تَقْرَعُ الْعَصَا … وَمَا عُلِّمَ الإِنْسَانُ إِلَّا لِيَعْلَمَا
وقال معن بن أوس، يصف راعي إبله [من الطويل]:
عَلَيْهَا شَرِيبٌ وَادِعٌ لَيِّنُ الْعَصَا … يُسَائِلُهَا عَمَّا بِهِ وَتُسَائِلُهْ
والعرب تُسمّي الطاعة، والأُلفة، والجماعة العصا، ويقولون: عصا الإِسلام، وعصا السلطان، ومن هذا قول الشاعر [من الطويل]:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا … فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
ومنه قول صلة بن أشيم: إياك وقتيل العصا، يقول: إياك أن تقتل، أو تُقتل قتيلًا إذا انشقّت العصا.
والعرب أيضًا تسمّي قرار الظاعن عصًا، وقرار الأمر، واستواءه عصًا، فإذا استغنى المسافر عن الظعن، قالوا: قد ألقى عصاه، وقال الشاعر [من الطويل]:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى … كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيَابِ الْمُسَافِرُ
ورُوي أن عائشة - رضي الله عنها - تمثّلت بهذا البيت حين اجتمع الأمر لمعاوية - رضي الله عنه -. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البرّ - رضي الله عنه - (١)، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان ما وجّه إلى حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - هذا، من المطاعن، والجواب عنه:
وقد أشبع الكلام في هذه المسألة العلّامة ابن القيّم: في كتابه الممتع "زاد المعاد"، وقد ذكر قبل ذكر المطاعن وأجوبتها كون حديثها موافقًا لكتاب الله - عز وجل - فقال:
(١) "التمهيد" ١٩/ ١٦١ - ١٦٢.