الطاعات، والذنوب، والثواب والعقاب، لا تُعرف إلا من الشارع، كما أشار إليه ابن دقيق العيد نفسه في تقريره السابق، بل قد أجاد آخر كلامه، فإذا أخبرنا الشارع بشيء من ذلك، فما لنا إلا التسليم.
وقد جاءت نصوص في تعظيم لعن المؤمن غير هذا، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما -، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فَضَجِرَت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:"خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة"، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يَعْرِض لها أحدٌ.
فإذا كان هذا في حيوان بهيميّ لَمَّا لُعن أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يُترك، ولا يُصاحَبَ، كما جاء في رواية:"لا يصاحبنا ملعون"، ولا ينضمّ إليهم، ولا يَنتفع به أحدٌ، فهو أعظم من قتله، فإنه ينتفع بلحمه العباد، وهنا حرموا الانتفاع بظهره ركوبًا وحملًا، وقد ثبت في "الصحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - علَّل كون النساء أكثر أهل النار بكثرة لعنهنّ، وبكفر العشير، وغير ذلك مما ورد في اللعن.
والحاصل أن كون اللعن مثل القتل مما لا يُستراب فيه.
قال الصنعانيّ رحمه الله تعالى: اللاعن قاصد باللعنة الدعاء على من لعنه، والداعي لا يدعو إلا راجيًا للإجابة، وكونه قد لا يوافق ساعة إجابة أمرٌ ليس داخلًا تحت قدرته، فهو قد قصد الإجابة، وأراد حرمان من دعا عليه رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، فاللاعن قد قصد إخراج من لعنه، وتفويته رحمة الله، فإثمه كإثم القاتل، وأما كونه لم يُجَبْ دعاؤه فهذا أمرٌ ليس إليه، فهو نظير من رَمَى مؤمنًا قاصدًا قتله، فأخطأه بغير اختياره، فإنه آثم إثم القاتل، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "القاتل والمقتول في النار"، وبيّن أن القاتل أُدخل مع قاتله النار؛ لأنه كان حريصًا على قتل أخيه، وهنا بدعائه على أخيه كان حريصًا على حلول اللعنة به.
وإذا عرفت هذا عرفت صحة ما قاله الإمام المازريّ: من أن اللعن كالقتل في التحريم، وفي الإثم؛ لما سَمِعتَ، ولقول ابن دقيق العيد آخرًا: إنه لا سبيل للبشر على الاطّلاع على حقائق مقادير المصالح والمفاسد إلا من طريق الشارع، والشارع هنا قد بيّن مفسدته بأنها تشبه مفسدة القتل، فليُلْقِ إليه