للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال القرطبيّ رحمه الله: وقد فهمت الصحابة -رضي الله عنهم- من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الشرب والبيع أنها لا يُنتفع بها بوجه من الوجوه، ولذلك بادروا إلى إراقتها، وإتلافها، ولو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لنبَّه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عليها، كما نبَّه على ما في جلد الميتة من المنفعة؛ لَمّا قال: "هلَّا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به" متّفقٌ عليه، وعلى هذا فلا يجوز تخليلها، ولا أن تعالج بالملح والسَّمك فيصنع منها الْمُرْي، وإلى مَنْع ذلك ذهب الجمهور: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وغيرهم، وحُكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة، والأوزاعيّ، والليث، وقد دلَّ على فساد هذا ما ذكرناه آنفًا، وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلًّا، وسيأتي مزيد بيان على هذا.

قال القاضي عياض رحمه الله: وفي هذا أيضًا: منع الانتفاع بها للتداوي، وغير ذلك من العطش عند عدم الماء، ولتجويز لقمة غُصّ بها، وهو قول مالك، والشافعيّ، وغيرهم.

وأجاز ذلك أبو حنيفة، وأحمد، وقاله بعض أصحابنا، ورُوي عن الشافعي: جوازه أيضًا إذا خاف التلف، وقاله أبو ثور.

قال: وإذا امتنع الانتفاع بها مطلقًا فلا يصحّ تملكها لمسلم، ولا تُقَرّ في يديه، بل تتلف عليه، ويجب ذلك عليه، ويتلفها الوصيّ على اليتيم.

وقد ذكر ابن خواز منداد من قدماء أصحابنا (١) العراقيين أنها تُملك، ونَزَع إلى ذلك بأنها يمكن أن يزال بها الغُصص، ويُطفأ بها الحريق، فتملك لذلك، وهذا نقلُ لا يُعرف لمالك، ولا يُلتفت لشيء مما قيل هنالك؛ لأنا لا نسلم جواز ذلك، على ما ذكرناه آنفًا فيمن غص بلقمة. ولو سلّمنا ذلك فلا يُلتفت إليه لِنُدوره، وعدم وقوعه، وإنما ذلك تجويز وهميّ، وتقدير ذهنيّ، فاعتباره وسواسٌ أعرض النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عنه، ولم يلتفتوا إلى شيء منه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (٢)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.


(١) يعني المالكيّة.
(٢) "المفهم" ٤/ ٤٥٦ - ٤٥٧.