ولفظ أبي عوانة في "مسنده""جُرح رجلٌ فيمن كان قبلكم جراحةً، فضجر، فعمد إلى سكّين، فقطع يده، فلم يرقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة".
وفي رواية لأبي نعيم في "المستخرج": "كان ممن قبلكم رجل جَرَح فخذه بسكّين، فلم يرقأ دمه، فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن قوله: "فخذه" محلّ نظر؛ إذ المذكور في رواية البخاريّ وغيره: "يده"، والله تعالى أعلم.
(فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ) - بالقاف، والهمز -: أي لَمْ ينقطع، يقال: رقأ الدمُ والدَّمْعُ يرقأ رُقُوءًا، مثل ركع يركع رُكوعًا: إذا سكن، وانقطع.
(حَتى مَاتَ) غاية لقوله: "فلم يرقأ" (قَالَ رَبُّكُمْ) زاد في رواية البخاريّ: "قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: بادرني عبدي بنفسه"، وهي رواية أبي عوانة المذكورة آنفًا، وهو كناية عن استعجال الرجل الموتَ وسيأتي البحث فيه (قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ") قال في "الفتح": هو جار مَجْرَى التعليل للعقوبة؛ لأنه لَمّا استعجل الموت بتعاطي سببه، من إنفاذ مقاتله، فجعل له فيه اختيارًا، عصى الله به، فناسب أن يعاقبه، ودَلّ ذلك على أنه قطع يده لإرادة الموت، لا لقصد المداواة التي يَغْلِب على الظن الانتفاع بها.
قال: وقد استُشكِل قوله: "بادرني بنفسه"، وقوله:"حَرَّمتُ عليه الجَنَّة"، لأن الأول يقتضي أن يكون مَن قُتِل فقد مات قبل أجله؛ لما يوهمه سياق الحديث، من أنه لو لَمْ يَقتُل نفسه كان قد تأخر عن ذلك الوقت وعاش، لكنه بادر فتقدم.
والثاني يقتضي تخليد الموحِّد في النار.
والجواب عن الأول أن المبادرة من حيثُ التسببُ في ذلك، والقصد له، والاختيار، وأطلق عليه المبادرة؛ لوجود صورتها، وإنما استَحَقَّ المعاقبة؛ لأن الله لَمْ يُطلِعه على انقضاء أجله، فاختار هو قتل نفسه، فاستحق المعاقبة؛ لعصيانه.
وقال القاضي أبو بكر: قضاءُ الله مطلقٌ، ومقيدٌ بصفة، فالمطلق يَمضِي على الوجه بلا صارف، والمقيّدُ على الوجهين.