وقيل وجه ثالث، وهو أحسنها -إن شاء الله تعالى- وهو: أن يكون استقرض البَكْر على ذمته، فدفعه لمستحقّ، فكان غارمًا، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم جملًا رَبَاعيًا، فدفعه فيما كان عليه، فكان أداء عمَّا في ذمته وحُسن قضاء بما يملكه. وهذا كما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر ابن عمرو أن يجهز جيشًا، فنَفِدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فظاهره: أنَّه أخذ على ذمَّته، فبقي أن يقال: فكيف يجوز له أن يؤدِّي دَينه، ويبرئ ذمته مِمَّا لا يجوز له أخذه؟
ويجاب عنه: بأنه لَمَّا لم يأخذه لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة، فلو لم يجئ من إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرِضه من ماله، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الجواب الذي قبل هذا الثالث، وهو ما تقدّم في قوله:"استسلفه لغيره … إلخ" أظهر من هذا، وأقرب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فيما قيل في حكمة شغل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذمّته بالدين:
قال القرطبيّ رحمه الله:[فإن قيل]: كيف شغل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذمَّته بدين، وقد قال:"إياكم والدَّين، فإنه شَيْنٌ، الدَّين هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار"(١)؟ وقد كان كثيرًا ما يتعوَّذ منه، حتى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرَم، فقال:"إن الرَّجل إذا غَرِم حدَّث فكذَب، ووعد فأخلف"، متّفقٌ عليه.
لا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن في ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيَّره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا، كما رواه الترمذي من حديث أبي أمامة، وحسّنه؛ ومن كانت هذه حاله لم يكن في ضرورة، ولا حاجة، ولذلك قال الله تعالى له: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨)} [الضحى: ٨].
قال القرطبيّ: قلت: أما الأخذ بالدَّين عند الحاجة، وقصد الأداء عند