٥ - (ومنها): أن فيه دليلًا على اشتراط كون الْمُسْلَم فيه معلوم المقدار، قال القرطبيّ رحمه الله: وكذلك لا بُدَّ أن يكون معلوم الصفة المقصودة المعيَّنة؛ ليرتفع الغرر والجهالة، وهو مجمع عليه، وإنما لم يذكر اشتراطها في هذا الحديث؛ لأنهم كانوا يشترطونها ويعملون عليها، فاستغني عن ذكرها، واعتني بذكر ما كانوا يُخِلُّون به من المقدار والأجل، وأما رأس مال السَّلم: فقد اشترط فيه أبو حنيفة أن يكون معلوم الكيل، أو الوزن، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز السَّلم بما كان معينًا، ولو لم يعلم كيله، ولا وزنه، وبه قال الشافعيّ في أحد قوليه، ولم يَرِدْ عن مالك فيه نصٌّ، لكن يتخرج من مسألة جواز بيع الجِزاف فيما يجوز فيه جواز السَّلم بالمعين جزافًا، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن التقدير في الجزاف كالتحقيق، فيستوي في جواز ذلك رأس مال السَّلم وغيره. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (١).
٦ - (ومنها): أن فيه دليلًا على اشتراط الأجل في السَّلم، قال القرطبيّ: وهو قول أبي حنيفة، والمشهور من قول مالك، غير أن أبا حنيفة لم يُفرق بين قريب الأجل وبعيده، وأما أصحابنا -يعني: المالكيّة- فقالوا: لا بدَّ من أجل تتغير فيه الأسواق، وأقله عند ابن القاسم خمسة عشر يومًا، وقال غيره: ثلاثة أيام، ولم يَحُدَّها ابن عبد الحكم في روايته عن مالك، بل قال: أيامًا يسيرة، وهذا في البلد الواحد. وأما في البلدين فيغني ما بينهما من المسافة عن اشتراط الأجل إذا كانت معلومة وتعيّن وقت الخروج.
وقال الشافعيّ: يجوز السَّلم الحالّ، وهذا الحديث حجة عليه، ولا سيما على رواية من رواه:"من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وكذلك الحديث الذي قال فيه:"نَهَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السَّلم"؛ لأن السَّلم لمّا كان بيعَ معلومٍ في الذمة كان بيعَ غائبٍ، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهيّ عنه، وإنما استثنى الشرع السَّلم من بيع ما ليس عندك؛ لأنه بيع تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج أن يشتري الثمر، وصاحب الثمرة