قال: ورَوَى وكيع وغيره، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استَعمَل معاذ بن جبل على اليمن، فلما استُخلِف أبو بكر بَعَثَ عمر على الموسم في تلك السنة، وقَدِم معاذ من اليمن برقيق، فلقي عمر بعرفة، فقال له عمر: ما هؤلاء؟، قال: هؤلاء لأبي بكر، وهؤلاء لي، فقال له عمر: أرى أن تأتي بهم إلى أبي بكر، فتدفعهم إليه فإن سلمهم لك، وإلا فهو أحق بهم، فقال: وما لي أدفع رقيقي إلى أبي بكر؟، لا أعطيه هديتي، فانصرف بهم إلى منزله، فلما كان من الغد جاء إلى عمر، فقال: يا ابن الخطاب، لقد رأيتني الليلةَ أُشرِف على نار، قد أُوقدت، فأكاد أتَقَحَّمها، وأَهْوِي فيها، وأنت آخذ بِحُجْزَتي، ولا أراني إلا مطيعك، قال: فذهب إلى أبي بكر، فقال: هؤلاء لك، وهؤلاء أُهدوا لي، قال: فإنّا قد سلّمنا لك هديتك، فرجع معاذ إلى منزله، فصلى، فإذا هم خلفه يصلون، قال: ما بالكم؟ قالوا: نصلي، قال: لمن؟ قالوا: لله، قال: فاذهبوا فأنتم لله، فأعتقهم.
وذكر يعقوب بن شيبة قال: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوريّ، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ عن ابن لكعب بن مالك، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن أميرًا، وكان أوّل من تَجَرَ في مال الله، فمَكَث حتى أصاب مالًا، وقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قدم معاذ، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل، فدَعْ له ما يَعِيش به، وخذ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَجْبُره، ولست بآخذ منه شيئًا إلا أن يعطيني. انتهى ملخّص كلام ابن عبد البرّ، وهو تحقيقٌ حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في حكم هدايا المشركين:
أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن عياض بن حمار - رضي الله عنه -: أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - هديةً له، أو ناقةً، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمت؟ " قال: لا، قال:"فإني نُهِيت عن زَبْدِ المشركين"(١)، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.
ومعنى قوله:"إني نُهيت عن زَبْد المشركين" يعني: هداياهم، وقد رُوي
(١) يقال: زبدت الرجل زَبدًا، من باب ضرب: إذا أعطيته، ومنحته. اهـ. "المصباح".