بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال: كيف تتوقف؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتَثِلْ أمره، وأحضره ما طَلَب، فإنه لا يقول إلا الحقّ، قال: هذا أحسن الأجوبة.
قال: ويَحْتَمِل أن بعضهم قال ذلك عن شكّ عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه، مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنُقِل.
ويَحْتَمِل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة، كما أصاب كثيرًا منهم عند موته -صلى الله عليه وسلم-.
وقال غيره: ويَحْتَمِل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه، فأطلق اللازم، وأراد الملزوم؛ لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه، وقيل: قال ذلك؛ لإرادة سكوت الذين لَغَطُوا، ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه، ويفضي في العادة إلى ما ذُكر.
ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"أهَجَرَ" فعلًا ماضيًا، من الهجر -بفتح الهاء، وسكون الجيم- والمفعول محذوف؛ أي: الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغةً لَمّا رأى من علامات الموت.
قال الحافظ: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبيّ، ويكون قائل ذلك بعض من قرُب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتدّ عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله، لجواز وقوع ذلك، ولهذا وقع في الرواية الثانية:"فقال بعضهم: إنه قد غلبه الوجع".
ووقع عند الإسماعيليّ من طريق محمد بن خلاد، عن سفيان في هذا الحديث:"فقالوا: ما شأنه يهجر؟ استفهموه".
وعند ابن سعد من طريق أخرى، عن سعيد بن جبير:"إن نبيّ الله ليهجر"، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك:"استفهموه" بصيغة الأمر بالاستفهام؛ أي: اختبروا أمْره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده، وابحثوا معه في كونه الأولى أو لا.
وفي قوله في الرواية الثانية:"فاختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم" ما يُشعر بأن بعضهم كان مُصَمِّمًا على الامتثال، والردّ على من امتنع منهم، ولمّا وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة، كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر.