للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقد مضى في "الصيام" أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبرهم بليلة القدر، فرأى رجلين يختصمان، فرُفعت.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فرُفعت البركة" فيه نظر لا يخفى، بل هذا مما لا يليق بمنصب الحافظ، فإنه لا شكّ أن البركة فيما اختاره الله لهذه الأمة، من عدم الكتابة، ويدلّ على ذلك ما ذكره نظيرًا له، وهو ارتفاع علم ليلة القدر، فإنه ليس فيه رفع للبركة قطعًا، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وعسى أن يكون خيرًا لكم"، فهل بعد رفع البركة من خير يرجى، فتبصّر بالإنصاف.

والحاصل أن الخير كلّ الخير فيما اختاره الله تعالى لهذه الأمة من بقاء دينها، وبقاء تمسّكها بكتاب ربها، وهذا هو الحاصل من الصدر منها، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- اجتمعوا على من قال في حقه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، وفي رواية: "معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر"، ولله تعالى الحمد والمنة، ومنه التوفيق والعصمة.

وقال المازريّ: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلّت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختَلَف اجتهادهم، وصَمَّم عمر على الامتناع لِمَا قام عنده من القرائن بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه -صلى الله عليه وسلم- كان إما بالوحي، وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي، فبالوحي، وإلا فبالاجتهاد أيضًا، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات.

قال الجامع: اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا وحي؛ أي: إن الوحي أقرّه، حيث لم ينزل بنقضه، فدلّ على أن ما قاله، وسكت عنه اجتهادًا مما أقرّه الله تعالى عليه، فلا ينبغي الشكّ والتردّد في كونه هو الحقّ، فتبصّر.

وقال النوويّ: اتفق قول العلماء على أن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه، ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عَجَزُوا عنها، فاستحقّوا العقوبة؛ لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسدّ باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه، وأشار بقوله: "حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨].