النذر، والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يُوفَى به، ولا حُمِد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر، وتغليظ أمره؛ لئلا يتهاون به، فيفرّط في الوفاء به، ويترك القيام به، ثم استدلّ بما ورد من الحثّ على الوفاء به في الكتاب والسُّنَة، وإلى ذلك أشار المازريّ بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفّظ في النذر، والحضّ على الوفاء به، قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث.
ويَحْتَمِل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستقلًا لها لَمّا صارت عليه ضربة لازب، وكلّ ملزوم، فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار.
ويَحْتَمِل أن يكون سببه أن الناذر لمّا لم ينذر القربة إلا بشرط أن يُفْعَل له ما يُريد؛ صار كالمعاوضة التي تقدح في نيّة المتقرّب.
قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير"، وقوله:"إنه لا يقرّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدّره له"، وهذا كالنصّ على هذا التعليل. انتهى.
والاحتمال الأول يعُمّ أنواع النذر، والثاني يخصّ نوع الْمُجازات، وزاد القاضي عياض: ويقال: إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالِب القدرَ، ولا يأتي الخيرُ بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظنّ بعض الجهلة، قال: ومُحصّل مذهب مالك أنه مباحٌ، إلا إذا كان مؤيّدًا لتكرّره عليه في أوقات، فقد يثقل عليه فعله، فيفعله بالتكلّف من غير طيب نفس، وغير خالص النيّة، فحينئذ يكره، قال: وهذا أحد محتملات قوله: "لا يأتي بخير"، كما تقدّم بيانه.
وقال الخطّابيّ في "الأعلام": هذا باب من العلم غريبٌ، وهو أن يُنهى عن فعل شيء حتى إذا فُعِل كان واجبًا، وقد أكثر الشافعيّةُ -ونقله أبو عليّ السنجيّ عن نصّ الشافعيّ- أن النذر مكروه؛ لثبوت النهي عنه، وكذا نُقل عن المالكيّة، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربيّ إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعيّة بالكراهة، قال: واحتجّوا بأنه ليس طاعة محضة؛ لأنه لم يَقصد به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا بما التزمه.