(ثُمَّ انْصَرَفَ)؛ أي: رجع -صلى الله عليه وسلم- (عَنْهُ)؛ أي: عن الرجل (فَنَادَاهُ)؛ أي: نادى الرجل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرّة أخرى (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا النِّداء من الرَّجل على جهة الاستلطاف، والاستعطاف، ولذلك رقَّ له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فرجعَ له، وقال له: "ما شأنك؟ " -رحمةً ورفقًا- على مقتضى خُلُقه الكريم، ولذلك قال الرَّاوي:(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَحِيمًا رَقِيقًا)؛ أي: رقيق القلب، شديد الرأفة على أمته، كما وصفه تعالى بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨]، (فَرَجَعَ) -صلى الله عليه وسلم- إليه، (فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا شَأْنُكَ؟ "، قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا اللفظ أنَّه قد صار مسلمًا بدخوله في دين الإسلام، وظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- أنه لَمْ يَقْبَل ذلك منه؛ لمّا أجابه بقوله: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح"، وحينئذ يلزم منه إشكال عظيم؛ فإن ظاهره أنه لَمْ يقبل إسلامه؛ لأنه أسيرٌ مغلوبٌ عليه، لا يملك نفسه، وعلى هذا: فلا يصح إسلام الأسير في حال كونه أسيرًا، وصحة إسلامه معلوم من الشريعة، ولا يُخْتَلف فيه، غير أن إسلامه لا يُزيل ملك مالكه بوجه، وهو أيضًا معلوم من الشرع.
ولمّا ظهر هذا الاشكال اختلفوا في الانفصال عنه، فقال بعض العلماء: يمكن أن يكون عَلِمَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حاله أنه لَمْ يَصْدُق في ذلك بالوحي، ولذلك لما سأله في المرَّة الثانية، فقال: "إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني"، فقال: "هذه حاجتك".
وقال بعضهم: بل إسلامه صحيح، وليس فيه ما يدلّ على أنَّه ردَّ إسلامه، فأمَّا قوله: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح"؛ أي: لو قلت كلمة الإسلام قبل أن تؤسر لبقيت حرًّا من أحرار المسلمين، لك ما لهم من الحرية في الدّنيا، وثواب الجَنَّة في الآخرة، وأمَّا إذا قلتها وأنت أسير، فإن حكم الرقّ لا يزول عنك بإسلامك.
[فإن قيل]: فلو كان مسلمًا فكيف يفادى به من الكفار رجلان مسلمان؟!.