كَرِهُوا المقام بها، وفي رواية أبي رجاء:"فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض، وسَقُمَت أجسامهم".
قال ابن فارس: اجتويت البلد: إذا كَرِهت الْمُقام فيه، وإن كنت في نعمة، وقَيَّده الخطابيّ بما إذا تضرر بالإقامة، وهو المناسب لهذه القصّة، وقال القزاز: اجتووا؛ أي: لم يوافقهم طعامها، وقال ابن العربيّ: الجوي: داء يأخذ من الوباء، وفي رواية أبي رجاء المذكورة:"فاستوخموا الأرض"، قال: وهو بمعناه، وقال غيره: الجوي داء يصيب الجوف، وفي رواية للبخاريّ من طريق سعيد، عن قتادة، في هذه القصّة:"فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل رِيفٍ"، وله من رواية ثابت، عن أنس:"أن ناسًا كان بهم سُقْم قالوا: يا رسول الله، آونا، وأطعمنا، فلما صَحُّوا، قالوا: إن المدينة وَخْمَة".
قال الحافظ - رحمه الله -: والظاهر أنهم قَدِمُوا سِقَامًا، فلما صَحّوا من السقم كرهوا الإقامة بالمدينة؛ لوخمها، فأما السقم الذي كان بهم، فهو الهزال الشديد، والجهد من الجوع، فعند أبي عوانة، من رواية غيلان، عن أنس:"كان بهم هُزَال شديد"، وعنده من رواية أبي سعد، عنه:"مُصْفرّةٌ ألوانهم"، وأما الوَخْم الذي شَكَوا منه بعد أن صَحَّت أجسامهم، فهو من حُمَّى المدينة، كما عند أحمد، من رواية حميد، عن أنس.
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ) جواب الشرط محذوف؛ أي: فافعلوا، وفي رواية حجاج، عن أبي رجاء التالية: "فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من أبوالها وألبانها، فقالوا: بلى"، وفي رواية أيوب، عن أبي رجاء: "فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلِقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها".
قال النوويّ - رحمه الله -: في هذا الحديث أنها إبل الصدقة، وفي غير مسلم أنها لِقاح النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكلاهما صحيح، فكأن بعض الإبل للصدقة، وبعضها للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، واستدلّ أصحاب مالك، وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران، وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي، وهو جائز بكل النجاسات، سوى الخمر والمسكرات.