للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صفة القصاص:

قال العلّامة محمد ابن رُشد - رحمه الله - في كتابه "بداية المجتهد": اختلفوا في صفة القصاص في النفس، فمنهم من قال: يُقتصّ من القاتل على الصفة التي قَتَل، فمن قتل تغريقًا قُتل تغريقًا، ومن قتل بضرب بحجر قُتل بمثل ذلك، وبه قال مالكٌ، والشافعيّ، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرّق آخر، هل يُحرّق؟ مع موافقتهم لمالك في احتذائه صورة القتل، وكذلك فيمن قتل بالسهم.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه: بأيّ وجه قتله لم يُقتل إلا بالسيف، وعمدتهم ما رَوى الحسن عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا قود إلا بحديدة".

وعمدة الفريق الأول حديث أنس - رضي الله عنه -: "أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسه بحجر"، أو قال: "بين حجرين"، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: ١٧٨]، والقصاص يقتضي المماثلة. انتهى كلام ابن رُشد - رحمه الله - (١).

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: اختُلف في أن من قَتَل بشيء قُتل به، فذهب الجمهور: إلى أنَّه يُقتل بمثل ما قَتَل من حجر، أو عصا، أو تغريق، أو خنق، أو غير ذلك ما لم يقتله بفسق كاللوطية، وإسقاء الخمر؛ فيُقتل بالسيف.

وحجَّتهم هذا الحديث - يعني: قصّة اليهوديّ - وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤]، وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: ٤٥]. والقصاص أصله: المساواة في الفعل، ومن هؤلاء من خالف في التحريق بالنار، وفي قتله بالعصا. فجمهورهم: على أنَّه يقتل بذلك. وقال ابن الماجشون وغيره: لا يحرَّق بالنار؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يعذِّب بالنَّار إلا ربّ النار" (٢)، وقال مالك في إحدى الروايتين عنه: أنَّه إن كان في قتله بالعصا تطويل، وتعذيب قُتل بالسَّيف. وفي الأخرى: يُقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعيّ، وقال الشافعيّ فيمن حبس رجلًا أيَّامًا في بيت حتَّى


(١) "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" ٢/ ٤٠٤.
(٢) حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود.