للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا قَتَله بما لا يَقْتُل مِثْلُه غالبًا، كالعضَّة واللَّطمة، وضربة السَّوط، والقضيب، وشبه ذلك:

فقال مالك، والليث: هو عمدٌ، وفيه القود، قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من السلف من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار: إلى أن هذا كلُّه شبه عمد، إنما فيه الدِّية مغلظة. وهو قول الثوريّ، والأوزاعيّ، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقد ذُكر عن مالك، وقاله ابن وهب، وجماعة من الصحابة والتابعين.

قال القرطبيّ: وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - إذ العمد: القصدُ إلى القتل، وهو أمر لا يُطَّلعُ عليه، فلا بُدَّ من دليل عليه، ولا بدَّ أن تكون تلك الدَّلالة واضحة رافعة للشَّك، ودلالة ما يقتل مثله غالبًا دلالة محقَّقة، صحيحة، وليس كذلك اللطمة، وضربة السوط، فلا دلالة فيها، والدِّماء أحقّ ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أُهُبها، فلا نستبيحها إلا بأمر بيِّن، لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، ولا نستبيح به دمًا، ولمّا كان مترددًا بين العمد والخطأ؛ حُكم له بشبه العمد، وهو حُكْمٌ بين حُكمين، فلا هو عمد محضّ، ولا خطأ محضّ، فلا قود فيه؛ إذ لم يتحقق العمد، ومع ذلك فيمكن أن يكون قصد القتل، فتكون فيه الدِّية المغلظة، هذا مع ما قد رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم الفتح بمكة، فذكر الحديث، وقال فيه: "ألا وإن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسَّوط، أو العصا مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها"، وهذا نصٌّ في الباب، فلا ينبغي أن يُعدل عنه. انتهى كلام القرطبيّ - رحمه الله - (١).

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من مشروعيَّة القصاص في اللطمة، ونحوها هو الحقّ؛ لظواهر النصوص، وقد أجاد الإمام ابن قيّم الجوزيّة - رحمه الله - في هذا الموضوع في كتابه "تهذيب السنن"، فقال:

قد اختَلَفَ الناس في هذه المسألة، وهي القصاص في اللطمة، والضربة، ونحوهما، مما لا يمكن المقتصّ أن يفعل بخصمه مثل ما فعله به من كلّ


(١) "المفهم" ٥/ ٢٦ - ٢٧.