للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وسؤالُهُ إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم، مما تراضوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهورَ الطويلة، فلما اعترفوا به مع عَملهم على خلافه، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لِمَا يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما كان عن هوى منهم، وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، لهذا قالوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} [المائدة: ٤١]؛ أي: الجلد والتحميم {فَخُذُوهُ}؛ أي: اقبلوه، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: ٤١]؛ أي: من قبوله واتباعه. انتهى (١).

(فَأَنْزَلَ اللهُ - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ، وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ)؛ أي: اقبلوا حكمه، واعملوا به، (وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوا)؛ أي: لا تقبلوا حكمه، (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ})، وقوله: (فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا) يعني: أن هؤلاء الآيات كلها إنما نزلت في شأن الكفّار، لا في المسلمين.

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}؛ يحتجُّ بظاهره من يُكفِّرُ بالذنوب، وهم الخوارج، ولا حجَّة لهم فيه؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت في اليهود المحرِّفين كلام الله تعالى، كما جاء في هذا الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب نزولها، وبيان هذا: أن المسلم إذا علم حكم الله تعالى في قضيَّة قطعًا، ثم لم يحكم به؛ فإن كان عن جَحْدٍ كان كافرًا، لا يُخْتَلَف في هذا، وإن كان لا عن جَحْدٍ كان عاصيًا مرتكب كبيرة؛ لأنَّه مُصَدّق بأصل ذلك الحكم، وعالم بوجوب تنفيذه عليه، لكنه عصى بترك العمل به، وهكذا في كل ما يُعلم من ضرورة الشرع حُكمه، كالصلاة، وغيرها من القواعد المعلومة، وهذا مذهب أهل السُّنَّة، وقد تقدم ذلك في "كتاب الإيمان" حيث بيَّنَّا: أن الكفر هو الجحد والتكذيب بأمرٍ معلوم ضروريّ من الشرع، فما لا يكن كذلك فليس بكفر،


(١) "تفسير ابن كثير" ٣/ ١١٦.