"ما كنت تحدّث به نفسك؟ "، قلت: لا شيء، فضحك، وأخبرني بذلك، واستغفر لي، ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، وغير ذلك من الوقائع التي أخبر بها، فوُجدت كما أخبر، وكما اتّفق ذلك للخضر عليه السلام في قصّة السفينة، والغلام، والجدار، لكن إنما كان ذلك للأنبياء من جملة كراماتهم، ومعجزاتهم، ولم يجعل الله ذلك طريقًا عامًّا، ولا قاعدة كلّيّةً، لا لهم، ولا لغيرهم؛ لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع من غير الأنبياء، ولأن وقوع ذلك من الأنبياء نادرٌ، وتلك سُنّة الله، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلًا.
قال القرطبيّ: وقد شاهدت بعض الممخرقين، وسمعنا منهم أنهم يُعرضون عن القواعد الشرعيّة، ويحكمون بالخواطر القلبيّة، ويقول: الشاهد المتّصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني، وهذه مخرقةٌ أبرزتها زندقة، يُقتَل صاحبها، ولا يُستتاب من غير شكّ، ولا ارتياب. وهذا خير البشر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في مثل هذا الموطن:"إنما أنا بشر"، معترفًا بالقصور عن إدراك المغيّبات، وعاملًا بما نصبه الله تعالى له من الأيمان والبيّنات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (١).
[تنبيه]: مما ينبغي أن يُتنبّه له أن هذا الحديث فيه بيان واضح، وردّ فاضح، على غلاة الصوفيّة، وجَهَلتهم، حيث إنهم يصفون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق أن يوصف به، فيقولون: إنه ليس كالبشر، بل هو أرفع من ذلك، يعلم الغيب، وأنه يحضر كلّ مجالسهم، ويقضي حوائجهم، بل صرّح بعضهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من الدنيا حتى أعلمه الله تعالى الخمس التي استأثر الله تعالى بعلمها، وهي المذكورة في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [لقمان: ٣٤]، وكلّ هذا من الخرافات، والضلالات، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرفع عند الله تعالى قدرًا، ولكنه بشر، فلا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله، فعليك أيها العاقل أن تتنصّل من هذه الاعتقادات الفاسدة، وتصحّح عقيدتك على ضوء الكتاب والسُّنّة، فلا تصف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما لم يثبت له في النصوص، ولا تَغْلُ في ذلك، فقد قال الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا