قال ابن قُدامة رحمه الله: فإن حَكَم في الغضب، أو ما شاكله، فحُكي عن القاضي أنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال في "المجرَّد": ينفذ قضاؤه، وهو مذهب الشافعيّ؛ لما رُوي أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار، في شِرَاج الْحَرّة، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للزبير:"اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: آن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال للزبير:"اسق، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجُدُر"، متفق عليه، فحَكَم في حال غضبه. وقيل: إنما يمنع الغضب الحاكمَ إذا كان قبل أن يتضح له الحكم في المسألة، فأما إن اتضح الحكم، ثم عَرَض الغضب لم يمنعه؛ لأن الحق قد استبان قبل الغضب، فلا يؤثّر الغضب فيه. انتهى (١).
وقال في "الفتح": لو خالف، فحكم في حال الغضب صحّ، إن صادف الحق مع الكراهة، هذا قول الجمهور، وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم -، قضى للزبير بشِراج الْحَرَّة، بعد أن أغضبه خصم الزبير، لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره؛ لِعِصْمته - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضى، قال النوويّ في حديث اللقطة: فيه جواز الفتوى في حال الغضب، وكذلك الحكم وينفذ، ولكنه مع الكراهة في حقّنا، ولا يُكره في حقه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يُخاف عليه في الغضب ما يُخاف على غيره، وأبعدَ من قال: يُحْمَل على أنه تكلم في الحكم قبل وصوله في الغضب إلى تغيّر الفكر، ويؤخذ من الإطلاق أنه لا فرق بين مراتب الغضب، ولا أسبابه، وكذا أطلقه الجمهور، وفصّل إمام الحرمين، والبغويّ، فقَيَّدا الكراهية بما إذا كان الغضب لغير الله، واستغرب الروياني هذا التفصيل، واستبعده غيره؛ لمخالفته لظواهر الحديث، وللمعنى الذي لأجله نُهي عن الحكم حال الغضب.
وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حال الغضب؛ لثبوت النهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وفصَّل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثِّر، وإلا فهو محل الخلاف، وهو تفصيل معتبَر.