للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ذلك، وألقى الله تعالى الإيمان في قلوبهم، وذَلَّت بالاستسلام لذلك ألسنتهم - كما نصّ في الحديث نفسه - رَفَعَ الله الحرج عنهم، ونَسَخَ هذه الْكُلْفة بالآية الأخرى كما قال، وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه، أو بالتاريخ، وهما مجتمعان في هذه الآية.

وقول المازريّ: "إنما يكون النسخ إذا تعذّر البناء" كلام صحيح فيما لم يَرِد به النصّ بالنسخ، وأما إذا ورد وَقَفْنَا عنده، لكن قد اختلف أرباب الأصول في قول الصحابيّ: نُسِخ حكم كذا بكذا، هل هو حجّة يَثبُتُ به النسخ، أم لا يثبت بمجرّد قوله؟، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلّاني، والمحقّقين منهم؛ لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده، وتأويله حتى ينقُل ذلك نصًّا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (١).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بثبوت النسخ بقول الراوي الصحابي: "نُسِخَ حكم كذا بكذا" هو الأرجح؛ لأنه أفهم بمقاصد الشريعة، وقد شَهِد الوحي والتنزيل، فقوله في مثل هذا حقيق بالقبول، وقد أوضحت ذلك في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} التكليف: هو الأمر بما يشقّ عليه، وتَكَلَّف الأمر تجشمته، حكاه الجوهري، والوسع: الطاقة، والْجِدَةُ، وهذا خبرٌ جَزْمٌ، نَصَّ الله تعالى على أنه لا يُكَلِّف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح، إلا وهي في وُسْع المكلف، وفي مُقْتَضَى إدراكه وبِنْيَتِه، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأوّلهم أمر الخواطر.

وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: ما وَدِدت أن أحدًا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يومًا، وأنا جائع، فلما بلغ منزله، فلم يجد فيه سوى نِحْي سَمْنٍ، قد بقي فيه أَثَارَة، فشَقَّه بين أيدينا، فجعلنا نَلْعَق ما فيه من السَّمْن والرُّبّ (٢) وهو يقول:


(١) "إكمال المعلم" ١/ ٥١٣ - ٥١٤.
(٢) بالضمّ: دِبْس التمر إذا طُبخ.