للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مَا كَلَّفَ اللهُ نَفْسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا … وَلَا تَجُودَ يَدٌ إِلَّا بِمَا تَجِدُ

وقوله تعالى: ({لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}) قال أبو العبّاس القرطبيّ: أي ما كسبت من خير، فلها ثوابه، وما اكتسبت من شرّ فعليها عقابه، و"كَسَبَ"، و"اكتسب " لغتان بمعنى واحد، كقدر واقتدر، ويمكن أن يقال: إن هذه التاء تاء الاستفعال، والتعاطي، ودخلت في اكتساب الشرّ، دون كسب الخير؛ إشعارًا بأن الشرّ لا يؤاخذ به إلا بعد تعاطيه، وفعله، دون الهمّ به، بخلاف الخير، فإنه يُكتب لمن هَمَّ به، وتحدّث به في قلبه، كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - مخبرًا عن الله تعالى: "إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً، ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيّئةً، فأنا أغفرها له، ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها له سيّئة واحدة" (١)، وفي لفظ آخر: "فإذا همّ" بدل "تحدّث". انتهى (٢).

وقال أبو عبد الله القرطبيّ: قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}: يريد الحسنات، والسيئات، قاله السّدّيّ، وجماعة المفسرين، لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية، وهو مثل قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤]، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: ١٦٤]، والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان، وجاءت العبارة في الحسنات بـ {لَهَا} من حيث إنها مما يَفْرَح المرء بكسبه، ويُسَرّ بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات بـ {عَلَيْهَا} من حيث إنها أثقال وأوزار، ومُتَحَمَّلات صعبة، وهذا كما تقول: لي مالٌ، وعليّ دينٌ، وَكَرَّر فعل الكسب، فخالف بين التصريف؛ تحسينًا لنمط الكلام، كما قال: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)} [الطارق: ١٧]، قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تُكتَسَب دون تكلف؛ إذ كاسبها على جادّة أمر الله تعالى، ورَسْمِ شرعه، والسيئات تُكتَسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يَتَكَلَّف في أمرها خَرْقَ حجاب نهي الله تعالى، ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرازًا لهذا المعنى. انتهى (٣).


(١) سيأتي للمصنف برقم (١٢٩) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(٢) "المفهم" ١/ ٣٣٨ - ٣٣٩.
(٣) راجع: "تفسير القرطبيّ" ٣/ ٤٣٠ - ٤٣١.