وجعل الكلام جملة واحدة، على أن يجعل "ما" مفعولًا لِمَا لم يُسم فاعله، و"صدقة" يُنصب على الحال، ويكون معنى الكلام: إن ما يتركه صدقة لا يورث، وإنما فعلوا هذا، واقتحموا هذا المحرَّم؛ لِمَا يلزمهم على رواية الجمهور من إفساد قولهم، ومذهبهم، أنهم يقولون: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يورث كما يورث غيره، متمسكين بعموم آية المواريث، معرضين عمَّا كان معلومًا عند الصحابة من الحديث الذي يدل على خصوصية النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يورث.
وقد حَكَى الخطابي حكاية تدلّ على صحة مذهب أهل السُّنة، وعلى بطلان مذهب أهل البدع، حُكي عن ابن الأعرابي: أن أبا العبَّاس السفاح قام في أول مقام قامه خطيبًا في قرية تسمى العباسية بالأنبار، فحمد الله، وأثنى عليه، فلما جاء عند الفراغ، قام إليه رجلٌ، وفي عنقه المصحف، فقال: يا أمير المؤمنين! أُذَكِّرك الله الذي ذَكرته ألا قضيت لي على خصمي بما في كتاب الله، فقال: ومن خصمك؟ قال: أبو بكر الذي منع فاطمة فَدَك، فقال: هل كان بعده أحد؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: عمر، قال: فأقام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: فهل كان بعده أحد؟ قال: نعم، قال: فمن؟ قال: عثمان، قال: فأقام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: فهل كان بعده أحد؟ قال: نعم. قال: فمن؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: فأقام على ظلمكم؟ قال: فأسكت الرجل، وجعل يلتفت يمينًا وشمالًا يطلب مخلصًا، فقال أبو العباس: والله الذي لا إله إلا هو لولا أنه أول مقام قمته، ولم أكن تقدمت إليك، لأخذت الذي فيه عيناك، اجلس، ثم أخذ في خطبته.
وحاصل هذه الحكاية: أن الخلفاء - رضي الله عنهم - عَلِموا وتحققوا صحَّة قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث، ما تركنا صدقة"، وعَمِلوا على ذلك إلى أن انقرضت أزمانهم الكريمة بلا خلاف في ذلك.
فأما طلب فاطمة - رضي الله عنها - ميراثها من أبيها من أبي بكر، فكان ذلك قبل أن تسمع فاطمة الحديث الذي دلَّ على خصوص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكانت متمسِّكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك، ولم تعد عليه بطلب، وأما منازعة عليّ والعباس، فلم تكن في أصل الميراث، ولا طلبا أن يتملكا ما ترك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أموال بني النضير؛ لأربعة أوجه: