للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فإنهم عَلَّقوا الأحكام بالنصوص، فاستحال عندهم أن يكون النصّ يأتي بحظر وإباحة معًا، إلا على وجه النسخ، وأما المعتزلة، فإنهم عَلَّقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه، فصار حُسن الفعل عندهم أو قُبْحه صفةَ عين، فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحُسن في حق زيد، والقُبح في حق عمرو، كما يستحيل ذلك في الألوان، والأكوان، وغيرهما من الصفات القائمة بالذوات، وأما ما عدا هاتين الطائفتين من أرباب الحقائق، فليس الحظر والإباحة عندهم بصفات أعيان، وإنما هي صفات أحكام، والحكم من الله تعالى يحكم بالحظر في النازلة على من أداه اجتهاده إلى الحظر، وكذلك الإباحة والندب والإيجاب والكراهة كلها صفات أحكام، فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهًا من التأويل، وكان عنده من أدوات الاجتهاد ما يترفع به عن حضيض التقليد إلى هَضْبَة النظر، فهو مصيب في اجتهاده، مصيب للحكم الذي تُعُبِّد به، وإن تُعُبِّد غيره في تلك النازلة بعينها بخلاف ما تُعُبّد هو به، فلا يُعَدّ في ذلك مخطئًا، إلا على من لا يعرف الحقائق، أو عَدَلَ به الهوى عن أوضح الطرائق. انتهى كلام السهيليّ رَحِمَهُ اللهُ (١).

قال الحافظ بعد نقل كلام السهيليّ المذكور باختصار ما نصّه: والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيّات واحد، وخالف الجاحظ، والعنبريّ، وأما ما لا قطع فيه: فقال الجمهور أيضًا: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعيّ، وقرّره، ونَقَل عن الأشعريّ أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظنّ المجتهد، وقال بعض الحنفية، وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده، وإن لم يُصب ما في نفس الأمر، فهو مخطئ، وله أجر واحد.

قال: ثم الاستدلال بهذه القصّة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف مَن بَذَل وُسْعه، واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه.

وحاصل ما وقع في القصة: أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - حَمَلوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت؛ ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول،


(١) "الروض الأنف" ٦/ ٢٢٥ - ٢٢٦.