وقال النوويّ رحمه الله:[فإن قيل]: ففي هذا الحديث قبوله - صلى الله عليه وسلم - هدية الكافر، وفي الحديث الآخر:"هدايا العُمّال غلول"، مع حديث ابن اللُّتْبيّة عامل الصدقات، وفي الحديث الآخر أنه - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ بعض هدايا المشركين، وقال:"إنا لا نقبل زَبْدَ المشركين"؛ أي: رِفْدهم، فكيف يُجْمَع بين هذه الأحاديث؟.
قال القاضي عياض رحمه الله: قال بعض العلماء: إن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية، قال: وقال الجمهور: لا نسخ، بل سبب القبول أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال، بخلاف غيره، فقَبِل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ممن طَمِع في إسلامه، وتأليفه؛ لمصلحة يرجوها للمسلمين، وكافأ بعضهم، ورَدّ هدية من لم يَطْمَع في إسلامه، ولم يكن في قبولها مصلحة؛ لأن الهدية توجب المحبة والمودّة، وأما غير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من العمال والولاة، فلا يحلّ له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء، فإن قَبِلها كانت فيئًا للمسلمين؛ فإنه لم يُهدها إليه، إلا لكونه إمامهم، وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة.
قال القاضي: وهذا قول الأوزاعيّ، ومحمد بن الحسن، وابن القاسم، وابن حبيب، وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم.
وقال آخرون: هي للإمام خالصة، وبه قال أبو يوسف، وأشهب، وسحنون.
وقال الطبريّ: إنما ردَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من هدايا المشركين ما عَلِم أنه أهدى له في خاصة نفسه، وقَبِل ما كان خلاف ذلك، مما فيه استئلاف المسلمين، قال: ولا يصحّ قول من ادَّعَى النسخ؛ إذ لم يأت في ذلك بيان، قال: وحكم الأئمة بعده إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء، أو الغنيمة، بحسب اختلاف الحال، وإلى هذا يرجع قوله:"هدايا العُمّال غُلُول"؛ أي: إذا خَصُّوا بها أنفسهم؛ لأنها لجماعة المسلمين، إما بحكم الفيء، أو بحكم الغنيمة، وقد يرجع إلى ما يُهديه إليهم رَعَاياهم، وأصل الغلول: الخيانة؛ لأنهم إنما أهدوا لهم من قِبَل ولايتهم، ولهذا أنكره - صلى الله عليه وسلم -، وقال:"هلّا جلس في بيت أبيه وأمّه، فينظر هل يُهدى له أم لا؟ ".
قال القاضي: كلّ هذا حماية عن الهوادة لهم في الحقوق بسببها، وإنما قَبِلها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لتنزّهه عن هذا، وعصمته منه.