للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقهرًا، وهو الذي صار إليه جمهور العلماء، والفقهاء: مالك، وغيره، عدا الشافعيّ، فإنَّه قال: فُتِحَت صلحًا، وقد اعتَذَر عنه بعض أصحابه عنه في ذلك بأن قال: أراد الشافعيّ بقوله: إنه دخل مكة صلحًا؛ أي: فَعَلَ فيها ما يفعله مَنْ صَالَحَ، فملّكهم أنفسهم، ومالهم، وأرضيهم.

قال القرطبيّ - رحمه الله -: والكل متفقون على أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا دخل مكة أَمَّنَ أهلها، ولم يَغْنَمهم، وترك لهم أموالهم، وذراريهم، وأراضيهم، ولم يُجْرِ عليها حكم الغنيمة، ولا حكم الفيء، فكان ذلك أمرًا خاصًّا بمكة؛ لشرفها، وحرمتها، ولا يساويها في ذلك غيرها من البلاد بوجه من الوجوه، والله تعالى أعلم، وقد تقدم الكلام في بيع دور مكة وإجاراتها. انتهى (١).

(ثُمَّ قَالَ) - صلى الله عليه وسلم - تأليفًا لقلب أبي سفيان؛ لكونه حديث عهد بالكفر ("مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ" أي: لا يجوز التعرض له بالقتل ونحوه، قال النوويّ - رحمه الله -: استَدَلّ به الشافعيّ، وموافقوه على أن دُور مكة مملوكة، يصح بيعها، وإجارتها؛ لأنَّ أصل الإضافة إلى الآدميين تقتضي الملك، وما سوى ذلك مجاز، وفيه تأليف لأبي سفيان، وإظهار لشرفه. انتهى (٢).

(فَقَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ) مرفوع على البدليّة، (لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ) يريدون النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، (فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ) يريدون مكة؛ أي: رغِب في سكنى مكة بدلًا من المدينة، (وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ)؛ أي: قومه قريش، قال الفيّوميّ - رحمه الله -: العَشِيرة: القبيلةُ، ولا واحد لها من لفظها، والجمع: عَشِيراتٌ، وعَشَائر. انتهى (٣).

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قول الأنصار هذا ليس فيه تنقيص، ولا تصغير، وإنما هم لَمّا رأوا منه - صلى الله عليه وسلم - ما تقتضيه خلق الكرام، وجِبِلّات الفضلاء من الرأفة على العشيرة، والميل للوطن، والحنين له، خافوا أن يؤثر المقام فيها على المقام بالمدينة، فحملهم شدة محبتهم له، وكراهة مفارقته، أو مفارقة أوطانهم، على أن قالوا هذا الكلام، وقد بيَّنوا عذرهم عن هذا حيث قالوا: "ما قلناه إلا


(١) "المفهم" ٣/ ٦٣٠ - ٦٣١.
(٢) "شرح النوويّ" ١٢/ ١٢٧.
(٣) "المصباح المنير" ٢/ ٤١١.