قال القاضي: وأجاب الأولون بأنّه إنما وصفه الله تعالى بأنّه لم يَتْلُ، ولم يخطّ؛ أي: من قبل تعليمه، كما قال الله تعالى:{مِنْ قَبْلِهِ}، فكما جاز أن يتلو جاز أن يكتب، ولا يَقدَح هذا في كونه أُمّيًّا؛ إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميًّا، وإنما المعجزة حاصلة أن كان أوّلًا كذلك، ثمَّ جاء بالقرآن، وبعلوم لا يعلمها الأميون، ولم يقدح ذلك في حالته، فكذلك يجوز أن يكون يخطّ، فلا يقدح فيه، بل يكون تأكيدًا في معجزته، قالوا: وظاهر قوله: "ولا يُحْسِن أن يكتب، فكتب" كالنص أنَّه كتب بنفسه، والعدول إلى غيره تجوّز في الكلام، وحملٌ على ما لم يُفهم منه لغير ضرورة، قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة، وشَنَّعَت كل فرقة على الأخرى في هذا، {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}[الإسراء: ٨٤](١).
وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله: "أرني مكانها، فأراه، فمحاها وكتب"، ظاهر هذا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - مَحَى تلك الكلمة التي هي "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بيده، وكتب مكانها:"ابن عبد الله"، وقد رواه البخاريّ بأظهر من هذا، فقال:"فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، فكتب"، وزاد في طريق أخرى:"ولا يُحسن أن يكتب"، فقال جماعة بجواز هذا الظاهر عليه، وأنه كتب بيده، منهم: السمنانيّ، وأبو ذرّ، والباجيّ، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أمِّيًا، ولا معارض لقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت: ٤٨]، ولا لقوله:"إنا أمة أميّة، لا نكتب، ولا نحسب"، متّفق عليه، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه، وصحة رسالته، وذلك أنَّه كتب من غير تعلم الكتابة، ولا تَعاطٍ لأسبابها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلِم عِلم الأولين والآخرين من غير تعلُّم، ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله، هذا لو فُرض أنَّه عَلِم الكتابة كلها، ودام عليها، فكيف ولم يُرْوَ عنه قط أنَّه كتب في غير ذلك الموطن الخاص، بل لم يفارق ما كان عليه من عدم معرفته بالكتابة حالة كتابته تلك، وإنما أجرى الله تعالى على يده، وقلمه حركاتٍ كانت عنها خطوط مفهومها:"ابن عبد الله" لمن قرأها، ثمَّ هل كان