عالِمًا في تلك الحال بنظم تلك الحروف الخاصة؟ كل ذلك مُحْتَمِلٌ، وعلى التقديرين، فلا يزول عنه اسم الأميّ بذلك؛ ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة:"ولا يُحسِن أن يكتب"، فبقي عليه اسم الأميّ مع كونه قال:"كَتَبَ".
وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشدّدوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا أن تكفير المسلم كقتله، على ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح"، لا سيما رَمْيُ مَن شَهِدَ له أهل عصره بالعلم، والفضل، والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يُحيلها، وليس في الشريعة قاطع يُحيل وقوعها على ما تقدَّم. انتهى (١).
وقال في "الفتح" عند قوله: "قوله: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، وليس يحسن يكتب … إلخ" ما نصّه: وقد تمسّك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجيّ، فادَّعَى أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشَنَّع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله مخالف القرآن، حتى قال قائلهم:
فجَمَعهم الأمير، فاستظهر الباجيّ عليهم بما لديه من المعرفة، وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قَيَّدَ النفي بما قبل ورود القرآن، فقال:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} الآية [العنكبوت: ٤٨]، وبعد أن تحققت أميته، وتقررت بذلك معجزته، وأُمِن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك، من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى.
وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجيّ في ذلك، منهم شيخه أبو ذرّ الهرويّ، وأبو الفتح النيسابوريّ، وآخرون، من علماء إفريقية، وغيرها.