للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ومن المتأخرين مَن قال: لا يعاقب على التكلم بما هَمَّ به، ما لم تكن المعصية التي هَمَّ بها قولًا مُحَرَّمًا، كالقذف، والغيبة، والكذب، فأما ما كان مُتعلَّقها العمل بالجوارح، فلا يأثم بمجرد تكلم بما هَمّ به، وهذا قد يُستَدَلُّ به على حديث أبي هريرة المتقدم: "وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيّئةً، فأنا أغفرها له ما لم يعملها"، ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس؛ جمعًا بينه وبين قوله: "ما لم تتكلم به"، وحديث أبي كبشة - رضي الله عنه - يَدُلُّ على ذلك صريحًا، فإن قول القائل بلسانه: لو أن لي مالًا لعملت فيه بالمعاصي، كما عَمِلَ فلان، ليس هو العمل بالمعصية التي هَمَّ بها، وإنما أخبر عما هَمَّ به فقط، مما متعلقه إنفاق المال في المعاصي، وليس له مال بالكلية، وأيضًا فالكلام بذلك مُحَرَّمٌ، فكيف يكون مَعْفُوًّا عنه، غير مُعاقَب عليه؟.

وأما إن انفسخت نيته، وفَتَرت عزيمته من غير سبب منه، فهل يعاقب على ما هَمَّ به من المعصية أم لا؟ هذا على قسمين:

[أحدهما]: أن يكون الهمّ بالمعصية خاطرًا، ولم يساكنه صاحبه، ولم يَعْقِد قلبه عليه، بل كرهه، ونفر منه، فهو معفوّ عنه، وهو الوساوس الرديئة التي سئل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: "ذلك صريح الإيمان" (١).

ولَمّا نَزَل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ٢٨٤] شَقَّ ذلك على المسلمين، وظَنّوا دخول هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية بعدها، وفيها قوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦]، فَبَيَّنَت أن ما لا طاقة لهم به غير مؤاخذ به، ولا يُكَلَّف به، وقد سَمَّى ابنُ عباس وغيره ذلك نسخًا، ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولى، وبَيَّنَت أن المراد بالآية الأولى العزائم المصمَّمُ عليها، ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق أن الأرجح فيها النسخ المتعارف عند المتأخّرين، وسبق بيان وجه ذلك عند شرح حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه - هذا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.


(١) يأتي للمصنّف قريبًا برقم (١٣٢).