للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

إغوائه، وتزيينه الكفر له، وعصمة المؤمن منه، فرجع إلى نوع من الكيد والمخاتلة بالإيذاء بحديث النفس بما يَكره المؤمن من خَفيّ الوساوس؛ إذ لا يطمع من موافقته له على كفر، وهذا لا يكون إلا من مؤمن صريح الإيمان، ثابت اليقين على محض الإخلاص، بخلاف غيره من كافر وشاكّ، وضعيف الإيمان، فإنه يأتيه من حيث شاء، ويتلاعب له كما أراد، والمؤمن معصوم منه، منافرٌ له، فلما لم يمكنه منه مراده رجع إلى شغل سرّه بتحديث نفسه، ودسّ كفره، بحيث يسمعه المؤمن، فيشوّش بذلك فكره، ويُكدِّر نفسه، ويؤذيه باستماعه له، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة" (١)، إذ حقيقة هذه اللفظة: الصوت الخفيّ، ومنه وَسواس الْحُليّ لخفيّ صوته عند حركته، وبناء هذه الكلمة على التضعيف يدل على تكرار مُقتضاها، فإذن سبب الوسوسة محض الإيمان، وصريحه، والوسوسة لمن وَجَدها علامة على ذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا سئل عن الوسوسة، وما يوجد في النفس منها أخبر أن مُوجبها، وسببها محض الإيمان، أو أنها علامةٌ على ذلك.

ولا يبقى بعد هذا التقرير والتفسير إشكال في متون هذا الحديث على اختلاف ألفاظه، واطّردت على معنىً سَوِيٍّ قَوِيم، وعلى هذا يُحمل ما جاء في الأحاديث الأخر. انتهى كلام القاضي عياض (٢)، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.


(١) هو ما أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:
(١٩٩٣) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن ذرّ بن عبد الله الهمدانيّ، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني أُحَدِّث نفسي بالشيء، لأن أَخِرَّ من السماء أحب إليّ من أن أتكلم به، قال: فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رَدَّ كيده إلى الوسوسة".
وأخرجه أبو داود في "سننه" (٤٤٤٨) بلفظ: جاء رجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يَعْرِض بالشيء لأن يكون حُمَمَة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: "الله أكبر … " الحديث.
(٢) "إكمال المعلم" ١/ ٥٣٢ - ٥٣٣.