على ما تقرّر آنفًا من أن الحريص عليها مخذول، والكاره لها مُعان، ومما جرى من الكلام بهذا المعنى مجرى المثل قولهم: الحرص على الأمانة دليل الخيانة. انتهى (١).
وقوله: (أَو يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ؟ ") "أو" هنا للشكّ من الراوي، قال: "يا أبا موسى، أو قال:"يا عبد الله بن قيس"، وهو اسم أبي موسى - رضي الله عنه -. (قَالَ) أبو موسى (فَقُلْتُ) اعتذارًا عن دخوله معهما، وهما يطلبان العمل، (وَالَّذِي بَعَثَكَ)؛ أي: أرسلك، والواو فيه للقَسَم، وفِعْل القَسَم محذوفٌ؛ أي: أُقسم بالله الذي أرسلك إلى الناس (بِالْحَق)؛ أي: بالدِّين والشرع الثابت الذي لا يدخله نسخٌ، ولا تبديل، (مَا) نافية، (أَطْلَعَانِي) كأعلماني وزنًا ومعنًى، (عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا)؛ أي: على الذي أضمراه في أنفسهما من طلب العمل، وفي رواية أبي العُميس:"فاعتذرت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، وقلت: لَمْ أدر ما حاجتهم، فصدّقني، وعذَرَني"، وفي لفظ: "لم أعلم لماذا جاءا؟ ". (وَمَا) نافية أيضًا، (شَعَرْتُ)؛ أي: ما فَطِنتُ، يقال: شَعَرَ بالشيء - بالفتح - يشعُر - بالضمّ - شِعْرًا - بالكسر -: فَطِن له، قاله في "المختار"، وفي "المصباح": وشَعَرتُ بالشيء شُعورًا، من باب قَعَد، وشِعْرًا، وشِعْرةً - بكسرهما -: عَلِمت. انتهى. (أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ)؛ أي: الولاية، فـ "أن" ومعمولاها مفعول "شعَرَ"، ففي الجملة الأُولى نفى كونهما أخبراه قَصْدَهما، وفي الثانية نفى علمه به، وأنه لَمْ يتوصّل إليه بأيّ وسيلة من القرائن، ومقصوده الاعتذار إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث شاركهما في الدخول عليه مع كونهما يطلبان العمل الذي ساءه جمرو طَلَبهما له؛ لأنَّ طَلَبهما له يدلّ على حِرصهما له، فيحملهما الحرص على عدم القيام بواجبه؛ لأنَّ من سأل الإمارة، فأُعطيَها وُكل إليها، ومن وَلي من غير مسألة أُعينَ عليها، كما بيّنه حديث عبد الرَّحمن بن سمرة - رضي الله عنه - الماضي. (قَالَ) أبو موسى - رضي الله عنه - (وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (تَحْتَ شَفَتِهِ)؛ أي: حال كونه ثابتًا تحت شفته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و"شفته" بالإفراد، وفي بعض النسخ: "شفتيه" بالتثنية.