للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فإنَّ الهجرة كانت واجبةً؛ لأمور: سلامة دين المهاجر من الفتنة، ونُصرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وتعلُّم الدين وإظهاره، وقد تقدّم: أنه لم يُخْتَلف في وجوب الهجرة على أهل مكة من المسلمين، واختُلِف في وجوبها على من كان بغيرها، فقيل: هي واجبة على كل من أسلم؛ تمسُّكًا بمطلق الأمر بالهجرة، وذمّ من لم يهاجر، وببيعة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة، كما جاء في حديث مجاشع، وقيل: بل كانت مندوبًا إليها في حقّ غير أهل مكة، حكاه أبو عبيد، ويُستدَلُّ لهذا القول بقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيِّ الذي استشاره في الهجرة: "إن شأنها لشديد"، ولم يأمره بها، بل أَذِنَ له في ملازمة مكانه، كما يأتي، وبدليل أنَّه لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة، وقيل: إنما كانت واجبة على من لم يُسلم جميعُ أهلِ بلده؛ لئلا يبقى تحت أحكام الشرك، ويخاف الفتنة على دينه.

قال القرطبيّ: ولا يُخْتَلف في أنه لا يحل لمسلم الْمُقام في بلاد الكفر مع التمكن من الخروج منها؛ لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤبّد إلى يوم القيامة، وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر لتجارة، أو غيرها مما لا يكون ضروريًّا في الدِّين؛ كالرُّسل، وكافتكاك المسلم، وقد أبطل مالك - رحمه الله - شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة. انتهى (١).

قال الجامع عفا الله عنه: في قوله: "فلا يجوز لمسلم. . . إلخ" نظر لا يخفى، فإنه لم يرد النهي عن الدخول للتجارة أو غيرها، وإنما ورد النهي عن الإقامة بين أظهرهم، وتكثير سوادهم، لا الدخول عليهم للحاجة، اللهم إذا خيف على دينه أن يُفْتَن، فيُمنع عن الدخول إلا للجهاد، أو نحوه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" عند شرح قول عائشة - رضي الله عنها - المتقدّم: "كان المؤمنون يَفِرّ أحدهم بدينه. . . إلخ" ما نصّه: أشارت عائشة - رضي الله عنها - إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن مَن قَدَر على عبادة الله في أي موضع اتَّفَقَ لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت، ومن ثَمّ


(١) "المفهم" ٤/ ٦٩ - ٧٠.