للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال الماورديّ: إذا قَدَر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لِمَا يترجى من دخول غيره في الإسلام.

وقال الخطابيّ: كانت الهجرة؛ أي: إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام مطلوبةً، ثم افتُرِضت لَمّا هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه، وتعلُّم شرائع الدين، وقد أكّد الله ذلك في عدّة آيات، حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: ٧٢]، فلما فُتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل، سَقَطت الهجرة الواجبة، وبقي الاستحباب.

وقال البغويّ في "شرح السُّنَّة": يَحْتَمِل الجمع بينهما - أي: بين حديث: "لا هجرة"، وحديث: "لا تنقطع الهجرة" - بطريق أخرى بقوله: لا هجرة بعد الفتح؛ أي: من مكة إلى المدينة، وقوله: "لا تنقطع"؛ أي: من دار الكفر في حقّ من أسلم إلى دار الإسلام.

قال: ويَحْتَمِل وجهًا آخر، وهو أن قوله: "لا هجرة"؛ أي: إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حيث كان بنيّة عدم الرجوع إلى الوطن المهاجَرِ منه إلا بإذن، وقوله: "لا تنقطع"؛ أي: هجرة من هاجر على غير هذا الوصف، من الأعراب، ونحوهم.

قال الحافظ: الذي يظهر أن المراد بالشقّ الأول، وهو المنفيّ ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشقّ الآخر المثبَت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما أخرجه الإسماعيليّ بلفظ: "انقَطَعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار"؛ أي: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم، وخَشِي أن يُفْتَن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن يبقى في الدنيا دار كفر، أن الهجرة تنقطع؛ لانقطاع موجبها، والله أعلم.

وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبةً، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بغير عذر كان كافرًا، وهو إطلاق مردود، والله أعلم. انتهى (١).


(١) "الفتح" ٨/ ٦٧٠، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (٣٩٠٠).