وقوله في هذا الحديث:"في جوف طير خُضْر"، وفي غير مسلم:"كطير خُضر"، وفي حديث آخر:"بحواصل طير"، وفي "الموطأ": "إنما نَسَمة المؤمن طير"، وفي حديث آخر عن قتادة:"في صورة طير أبيض"، قال القاضي عياض: قال بعض المتكلمين على هذا: الأشبه صحّة قول من قال: "طير، أو صورة طير"، وهو أكثر ما جاءت به الرواية، لا سيما مع قوله:"تأوي إلى قناديل تحت العرش"، قال القاضي: واستَبْعَد بعضهم هذا، ولم ينكره آخرون، وليس فيه ما يُنكَر، ولا فرق بين الأمرين، بل رواية "طير"، أو "أجواف طير" أصحّ معنًى، وأبْيَن وجهًا، وليس بالأقيسة والعقول في هذا حكم، فكلٌّ من المجوَّزات، فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن، أو الشهيد في قناديل، أو أجواف طير، أو حيث يشاء كان ذلك ووقع، ولم يَبْعُد، لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام، كما سنذكره، ونذكر الخلاف في ذلك، ولَمَا أَبْعَدْنا أن تكون رواية أنها طير على ظاهره؛ إذ لو غُيّرت الأرواح عن حالها وصفاتها إلى صفات طير خُضر لم تكن حينئذ أرواحًا، وأمّا على القول: إن الروح معنى، وهي الحياة، فبعيد أيضًا أن ترجع صورة طير؛ لأن المعاني لا تتجسّم، ولا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بغيرها من أجسام يخلقها الله تعالى لذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: كان على القاضي عياض أن لا يورد هذه الاستبعادات؛ لأنها من الظنون والخيالات الفاسدة التي يتبنّاها الفلاسفة وأذنابهم من المتكلّمين الذين لا يرون للنصوص قيمة، ولا يعتمدون إلا عقولهم، فإذا أخبر الله تعالى بأنه يجعل روح الشهيد طيرًا، أو كالطير، أو في أجواف طير، فما المانع من ذلك، وما الذي يمنع الله تعالى أن يجعل المعاني أجسامًا، وبالعكس؟ والله المستعان.
قال: وقيل: إن هذا المنعَّم، أو المعذَّب من الأرواح جزء من الجسد، تبقى فيه الروح، وهو الذي يتألم، ويعذَّب، ويلتذّ، وينعّم، وهو الذي يقول:{رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون: ٩٩]، وهو الذي يَسْرَح في شجر الجنة، فغير مستحيل أن يُصَوَّر هذا الجزء طائرًا، أو يُجعل في جوف طائر، وفي قناديل تحت العرش، وغير ذلك مما يريد الله - عز وجل - على المعاني التي تقدّمت،