ويؤدّبون عليه؛ تمسّكًا بقاعدة تحريم السباب، والأَعْراض، واعتذروا عن هذا الحديث بأنه مُحتمِلٌ لأن يكون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ أن المقول له ذلك القول كان كما قيل فيه، فكان القائل صادقًا، ولم يقصِدْ أذاه بذلك، وإنما قصد منفعةً يستخرجها، فلعلّه إذا شنَّعَ عليه، فقد ينزجر بذلك، فيرجع به للحقّ، ويحتمل أن يكون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تركه، ولم يزجُرْهُ؛ لأن المقول له لَمْ يطلُب حقّه في ذلك، قاله القرطبيّ أيضًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذهب إليه الجمهور فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو خلاف ظواهر النصوص، فمن تأمّل الخصومات التي جرت بين يدي النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه الراشدين وجدها مخالفة له، كهذا الحديث، وكما أسلفناه من قصّة العباسّ وعليّ - رضي الله عنهما -، فالصواب ما ذهب إليه بعضهم من القول بجواز مثل ذلك؛ لِمَا ذكرناه، وأما الاحتمالات التي ذكروها، فليست مما يعارض بها ما دلّ عليه ظاهر النصوص، وأما قولهم: فقد ينزجر بذلك، ويرجع للحقّ، فليس كذلك، بل يزيده السبّ والشتم، والطعن علي التمادي في المخاصمة، لا العكس، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
٩ - (ومنها): أن فيه حُجّةً لمن لا يشترط الخُلطة في توجّه اليمين على المُدَّعَى عليه، وقد اشترط ذلك مالك - رَحِمَهُ اللهُ -، واعتُذِر له عن هذا الحديث بأنها قضيّة في عين، ولعلّه - صلى الله عليه وسلم - علم بينهما خُلْطةً، فلم يُطالبه بإثباتها، قاله القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي نُسب إلى مالك - رَحِمَهُ اللهُ - فيه نظرٌ لا يخفي، والاعتذار المذكور مما لا ينفع، فالظاهر ما دلّ عليه الحديث من إطلاق الحكم، فتأمّله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
١٠ - (ومنها): أنه يدلّ على أن المُدّعي لا يلزمه تحديد المُدَّعى به إن كان مما يُحَدُّ، ولا أن يَصفه بجميع أوصافه، كما يوصَف المُسْلَمُ فيه، بل يكفي من ذلك أن يتميّز المُدَّعَى به تميُّزًا تنضبط به الدعوي، وهو مذهب مالك - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، خلافًا لما ذهبت إليه الشافعيّة، حيث ألزموا المُدَّعي أن يَصِفَ المدَّعَى به بحدوده، وأوصافه المعيّنة التامّة، كما يوصف المُسْلَم فيه، وهذا