والجواب عن آية الأنعام أنها مكية، وخبر التحريم متأخر جدًّا، فهو مقدّم، وأيضًا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذُكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذُكر فيها، كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضًا تحريم ما أُهِلّ لغير الله به، والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السباع، والحشرات.
قال النوويّ: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء، من الصحابة، فمَن بعدَهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا لهم، إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات، ثالثها الكراهة.
وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود، عن غالب بن أبجر قال:"أصابتنا سَنَة، فلم يكن في مالي ما أُطعم أهلي، إلا سِمَان حمر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنك حرَّمت لحوم الحمر الأهلية، وقد أصابتنا سَنَةٌ، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جَوّال القرية - يعني: الجلالة -"، وإسناده ضعيف، والمتن شاذّ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها.
وأما الحديث الذي أخرجه الطبرانيّ عن أم نصر المحاربية:"أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية، فقال: أليس ترعى الكلأ، وتأكل الشجر؟ قال: نعم، قال: فأصب من لحومها".
وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مُرّة، قال: سألت. . . فذكر نحوه، ففي السندين مقالٌ، ولو ثبتا احْتَمَل أن يكون قبل التحريم.
قال الطحاويّ: لو تواتر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الحمر الأهلية، لكان النظر يقتضي حِلَّها؛ لأن كل ما حُرِّم من الأهليّ أُجمع على تحريمه، إذا كان وحشيًّا، كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حِل الحمار الوحشيّ، فكان النظر يقتضي حِل الحمار الأهليّ.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ما ادّعاه من الإجماع مردود، فإن كثيرًا من الحيوان الأهليّ مختلف في نظيره من الحيوان الوحشيّ، كالهرّ. انتهى (١).
(١) "الفتح" ١٢/ ٥١٠ - ٥١٢، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (٥٥٣٠).