للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقوله: (بايعت) يعني: البيع والشراء، لا المبايعة؛ لأن اليهوديّ والنصرانيّ لا يُبايع بيعة الإسلام، ولا بيعة الإمامة، وإنما يعني: أن الأمانة قد رُفعت من الناس، فقلّ من يُؤمن على البيع والشراء، قاله القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١).

وقال النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -: معنى المبايعة هنا البيع والشراء المعروفان، ومراده أني كنت أعلم أن الأمانة لَمْ ترتفع، وأن في الناس وفاءً بالعهود، فكنت أُقْدِم على مبايعة مَن اتَفَقَ، غيرَ باحث عن حاله؛ وُثوقًا بالناس وأمانتهم، فإنه إن كان مسلمًا فدِينه، وأمانته تمنعه من الخيانة، وتحمله على أداء الأمانة، وإن كان كافرًا فساعيه، وهو الوالي عليه، كان أيضًا يقوم بالأمانة في ولايته، فَيَستخرج حقّي منه، وأما اليومَ فقد ذهبت الأمانة، فما بقي لي وُثوقٌ بمن أبايعه، ولا بالساعي في أدائهما الأمانة، في أبايع إلَّا فلانًا وفلانًا، يعني: أفرادًا من الناس أعرفهم، وأثق بهم.

قال صاحب "التحرير"، والقاضي عياض رحمهما الله تعالى: وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها، من المعاقدة، والتحالف في أمر الدين، قالا: وهذا خطأ ممن قاله، وفي هذا الحديث مواضع تبطل قولَهُ، منها: "قوله: ولئن كان نصرانيًّا، أو يهوديًّا"، ومعلوم أن النصرانيّ واليهوديّ لا يُعاقَد على شيء من أمور الدين. انتهى (٢).

وقال في "الفتح": مراده المبايعة في السِّلَع ونحوها، لا المبايعة بالخلافة، ولا الإمارة.

وقد اشتد إنكار أبي عبيد وغيره على مَن حَمَل المبايعة هنا على الخلافة، وهو واضح، ووقع في عبارته أن حُذيفة - رضي الله عنه - كان لا يَرْضَى بأحد بعد عمر - رضي الله عنه -، يعني: في الخلافة، وهي مبالغة، وإلا فقد كان عثمان - رضي الله عنه - ولَّاه على المدائن، وقد قُتِل عثمان، وهو عليها، وبايع لعليّ - رضي الله عنه -، وحَرَّضَ على المبايعة له، والقيام في نصره، ومات في أوائل خلافته.

والمراد أنه لوثوقه بوجود الأمانة في الناس أَوّلًا، كان يُقْدِم على مبايعة


(١) "المفهم" ١/ ٣٥٧.
(٢) "شرح النوويّ" ٢/ ١٧٠.