وأيضًا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرًا يعمّ الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة، يمكن التحرز عنها، وهذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة؛ ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا يُنتفع بها، وتتابَع الناس، وتوافقوا على ذلك، والله أعلم.
[فإن قيل]: التنجيس حكم شرعيّ، ولا نصّ فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرَّمًا أن يكون نجسًا، فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس.
[قلنا]: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدلُّ على نجاستها، فإن الرجس في اللسان: النجاسة، ثم لو التزمنا إلَّا نحكم بحكم إلَّا حتى نجد فيه نصًّا، لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأيّ نصّ يوجد على تنجيس البول، والعذرة، والدم والميتة، وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر، والعمومات والأقيسة. انتهى كلام القرطبيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله القرطبيّ نظر لا يخفي، إذ استدلاله بقوله:{رِجْسٌ} غير صحيح؛ لأنه يلزمه أن تكون الأنصاب، والأزلام أيضًا نجسًا، ولا قائل به، وأيضًا قوله:"لا يوجد نصّ على تنجيس البول … إلخ"، غير صحيح، فقد ثبتت نجاسة البول، والغائط، والميتة بنصوص كثيرة، كحديث:"استنزهوا من البول"، وحديث:"أيما إهاب دُبغ، فقد طهر"، وأمْره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المستحاضة بغسل الدم، وغير ذلك، مما لا يخفى على من يتتبع النصوص.
والحاصل أن القول بنجاسة الخمر محلّ نظر، فإن حديث أنس - رضي الله عنه - في صبّها في سكك المدينة ظاهر في طهارتها، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوُه} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا يُنتفَع معه بوجه من الوجوه، لا بشرب، ولا بيع، ولا تخليل، ولا مداواة، ولا غير ذلك، وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب، رَوَى مسلم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلًا أهدى لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راوية خمر، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل علمت أن الله حرمها؟ " قال: لا، قال: فسارّ رجلًا، فقال