للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

[تنبيه آخر]: الفرق بين الأسقية من الأدم وبين غيرها، أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامّها، فلا يُسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار، ونحوها، مما نُهِي عن الانتباذ فيه، وأيضًا فالسقاء إذا نُبذ فيه، ثم رُبط أُمنت مفسدة الإسكار بما يُشرب منه؛ لأنه متى تغيّر، وصار مسكرًا شقّ الجلد، فلمّا لَمْ يشقّه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية؛ لأنَّها قد تصير النبيذ فيها مسكرًا، ولا يُعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض، فمن جهة المحافظة على صيانة المال؛ لثبوت النهي عن إضاعته؛ لأنَّ التي نُهي عنها يُسرع التغيّر إلى ما يُنبذ فيها، بخلاف ما أُذِن فيه، فإنه لا يُسرع إليه التغير، ولكن حديث بُريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع بقَيْد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداءً حتى يُختبر حاله، هل تغيّر أو لا؟ فإنه لا يتعيّن الاختبار بالشرب، بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان، أو يقذف بالزبد، ونحو ذلك، قاله في "الفتح" (١).

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون لنهيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ)؛ أي: أسقية الأَدَم، فحَذَف المفعول؛ لِعِلْمه. (فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي الْجَرّ، غَيْرِ الْمُزَفَّتِ) قال النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -: هذا محمول على أنَّه رخَصَّ فيه أَوّلًا، ثم رخّص في جميع الأوعية في حديث بريدة وغيره، والله أعلم. انتهى (٢).

وقد وقع عند البخاريّ بلفظ: "فرَخّص لهم"، وهو لغة في "أرخص"، يقال: رَخّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله، قاله الفيّوميّ (٣).

وفي رواية ابن أبي شيبة: "فَأَذِن لهم في شيء منه"، وفي هذا دلالة على أن الرخصة لَمْ تقع دفعةً واحدةً، بل وقع النهي عن الانتباذ إلَّا في سقاء، فلما شَكَوْا رَخَّص لهم في بعض الأوعية دون بعض، ثم وقعت الرخصة بعد ذلك عامّةً.


(١) "الفتح" ١٢/ ٦٣٨، كتاب "الأشربة" رقم (٥٥٩٣).
(٢) "شرح النوويّ" ١٣/ ١٦٩.
(٣) "المصباح المنير" ١/ ٢٢٤.