ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء، فينصب منه أكثر من حاجته، فلا يأمَن أن يُشْرَق به، أو تبتلّ ثيابه.
قال ابن العربيّ: وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدًّا.
وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخّصه: اختُلف في علة النهي، فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان، أو ينصب بقوة، فيشرق به، أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب، فربما كان سبب الهلاك، أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفَس، أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره، أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة، فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم؛ لثبوت النهي، وحَمَل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة؛ لأنهم كانوا أوّلًا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء، فنُسخ الجواز.
قال الحافظ: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذيّ، وصحَّحه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدّته كبشة، قالت:"دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشَرِب من في قِربة معلّقة"، وفي الباب عن عبد الله بن أنيس، عند أبي داود، والترمذيّ، وعن أم سلمة في "الشمائل"، وفي "مسند أحمد"، والطبرانيّ، و"المعاني" للطحاويّ.
قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": لو فُرِّق بين ما يكون لعذر، كأن تكون القربة معلقةً، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسِّرًا، ولم يتمكن من التناول بكفه، فلا كراهة حينئذ، وعلى ذلك تُحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر، فتُحمل عليه أحاديث النهي.
قال الحافظ: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلَّقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقًا، بل على تلك الصورة وحدها، وحَمْلها على