العلم، قيل: وهذا أعلم، وأحكم؛ أي: يحتاج إلى مزيد علم وحكمة حتى يطابق التأويل سياق ذلك النصّ، وليس المعنى أن مذهب الخلف أكثر علمًا، فالمذهبان متّفقان على التنزيه، وإنما الخلاف في أن الأولى ماذا؟ أهو التفويض، أو التأويل؟، ويمكن حمل الخلاف على اختلاف الزمان، فكان التفويض في زمان السلف أولى؛ لسلامة صدورهم، وعدم ظهور البدع في زمانهم، والتأويل في زمان الخلف أولى؛ لكثرة العوامّ، وأخذهم بما يتبادر إلى الأفهام، وغلوّ المبتدعة بين الأنام، والله أعلم بالمرام. انتهى كلام القاري (١).
قال الجامع عفا الله عنه: في كلام القاري هذا نظر من وجوه:
[الأول]: ليته لم يخُض فيما لم يخُض فيه الإمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ -، وهو إمامه، فإنه حنفيّ المذهب، لا يخالف الإمام في المسائل الفرعيّة، ولا قِيد شبر، فلماذا خالف مذهبه في إثبات الصفات على ما وردت، وعدم تأويلها؛ لأنه يؤدّي إلى التعطيل، وقد نقله لنا، وأعلمنا بما لم نعلمه من مذهبه من قبلُ، فكان حقّه أن يقلّده في هذا كما يقلّده في الفروع.
[الثاني]: أن مقارنته بين مذهب السلف والخلف، وتصويبه لهما معًا غير صحيح؛ لأن مذهب الخلف يؤدّي إلى محذور، وهو القول على الله تعالى بلا علم، وهو محرّم بنصّ كتاب الله تعالى، حيث قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)} [الأعراف: ٣٣].
وقد أشار القاري في كلامه إلى هذا المحذور، حيث قال: وهو أسلم؛ حذرًا من أن يُعيّن له غير مراد له تعالى، فالمؤوّل ليس عنده علم بأن ما أول به هو مراد الله تعالى، فهو داخل في الآية المذكورة بلا شكّ.
[الثالث]: قوله: ويمكن حمله على اختلاف الزمان … إلخ، غير صحيح أيضًا؛ لأن اختلاف الزمان لا يقتضي تغيير الدين الذي جاء به النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقد أكمل الله - سبحانه وتعالى - الدين بقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: ٣]، فلا يشرع أمر جديد بعد موت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -،