للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال الحافظ رحمه الله: لكن لو عُكِس الأمرُ، فمرّ جَمْع كثير على جمع قليل، وكذا لو مر الصغير على الكبير، لم أر فيهما نصًّا، واعتبر النوويّ المرور، فقال: الوارد يبدأ، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، قليلًا أم كثيرًا، ويوافقه قول المهلَّب: إن المار في حكم الداخل، وذكر الماورديّ أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلِّم إلا على البعض؛ لأنه لو سلَّم على كل من لقي لَتَشاغَل به عن المهمّ الذي خرج لأجله، ولخرج به عن العُرَف.

قال الحافظ: ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عن الطُّفيل بن أبي بن كعب: "قال: كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق، فلا يمرّ على بياع، ولا أحد إلا سلّم عليه، فقلت: ما تصنع بالسوق؟ وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السِّلَع؟ قال: إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا"؛ لأن مراد الماورديّ: من خرج في حاجة له، فتشاغل عنها بما ذُكِر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لِقَصْد تحصيل ثواب السلام.

وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شُرع لهم الابتداء، فقال ابن بطال (١)، عن المهلَّب: تسليم الصغير لأجل حقّ الكبير؛ لأنه أُمر بتوقيره، والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حقّ الكثير؛ لأن حقهم أعظم، وتسليم المارّ؛ لِشَبَهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب؛ لئلا يتكبَّر بركوبه، فيرجع إلى التواضع.

وقال ابن العربيّ: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوعٍ مَا يبدأ الفاضل.

وقال المازريّ (٢): أما أمر الراكب؛ فلأن له مزيةً على الماشي، فعُوِّض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام؛ احتياطًا على الراكب من الزهو، أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلِمَا يَتَوَقَّع القاعد منه من الشرّ، ولا سيما إذا كان راكبًا، فإذا ابتدأه بالسلام أَمِن منه ذلك، وأَنِس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانًا، فصار للقاعد مزيةٌ، فأُمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشُقّ عليه مراعاة المارّين مع كثرتهم، فسقطت البداءة عنه؛ للمشقة، بخلاف المارّ فلا


(١) "شرح البخاري" لابن بطّال ٩/ ١٥.
(٢) "المعلم" ٣/ ٨٧.