(فَقَالَ) الزبير - رضي الله عنه - لَمّا أخبرته بذلك:(وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ) وفي رواية البخاريّ: "والله لحملك النوى على رأسك، كان أشد عليّ من ركوبك معه"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية السرخسيّ:"كان أشدّ عليك"، وسقطت هذه اللفظة من رواية مسلم.
قال: ووجه المفاضلة التي أشار إليها الزبير - رضي الله عنه - أن ركوبها مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا ينشأ منه كبير أمر من الغَيرة؛ لأنها أخت امرأته، فهي في تلك الحالة لا يحلّ له تزويجها أن لو كانت خَلِيّة من الزوج، وجواز أن يقع لها ما وقع لزينب بنت جحش بعيدٌ جدًّا؛ لأنه يزيد عليه لزوم فراقه لأختها، فما بقي إلا احتمال أن يقع لها من بعض الرجال مزاحمةٌ بغير قصد، وأن ينكشف منها حالة السير ما لا تريد انكشافه، ونحو ذلك، وهذا كله أخفّ مما تحقّق من تبذّلها يحمل النوى على رأسها من مكان بعيد؛ لأنه قد يُتَوَهَّم خسة النفس، ودناءة الهمة، وقلّة الغيرة، ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك شُغْل زوجها، وأبيها بالجهاد، وغيره مما يأمرهم به النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ويقيمهم فيه، وكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت، بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم على استخدام من يقوم بذلك عنهم، فانحصر الأمر في نسائهم، فكنّ يكفينهم مؤنة المنزل، ومن فيه؛ ليتوفروا هم على ما هم فيه، من نصر الإِسلام، مع ما ينضم إلى ذلك من العادة المانعة من تسمية ذلك عارًا محضًا. انتهى (١).
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول الزبير - رضي الله عنه -: "والله لحملك النوى … إلخ " يدلّ على أن الزبير لم يكلّفها شيئًا من ذلك، وإنما فعلت هي ذلك لحاجتها إلى ذلك، وتخفيفًا عن زوجها؛ على عادة أهل الدين والفضل الذين لا التفات عندهم لشيء من زينة الدنيا، ولا من أحوال أهلها، فإنَّهم كانوا لا يَعيبون على أنفسهم إلا ما عابه الشرع، فكانوا أبعد الناس منه، وأَخْرَج هذا القولُ من الزبير فَرْطَ الاستحياء المجبول عليه أهل الفضل، ويعني بذلك: أن الحياء الذي لحقه من تبذّلها يحمل النوى على رأسها أشدُّ عليه من الغيرة التي كانت تلحقه
(١) "الفتح" ١١/ ٦٧٣ - ٦٧٤، كتاب "النكاح" رقم (٥٢٢٤).