للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الدم، وإنما خَصّ الحجمَ بالذِّكر؛ لكثرة استعمال العرب، وإِلْفِهم له، بخلاف الفَصْد، فإنه وإن كان في معنى الحجم، لكنه لم يكن معهودًا لها غالبًا، على أن في التعبير بقوله: "شَرْطَةُ مِحْجَم" ما قد يتناول الفصد، وأيضًا فالحجم في البلاد الحارّة أنجح من الفصد، والفصد في البلاد التي ليست بحارّة أنجح من الحجم.

وأما الامتلاء الصفراويّ، وما ذُكر معه، فدواؤه بالْمُسْهل، وقد نَبَّه عليه بذكر العسل، وسيأتي توجيه ذلك قريبًا.

وأما الكيّ، فإنه يقع آخرًا لإخراج ما يتعسر إخراجه من الفضلات، وإنما نَهَى عنه مع إثباته الشفاء فيه، إما لكونهم كانوا يرون أنه يَحسم المادّة بطبعه، فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء؛ لظنهم أنه يَحسِم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار؛ لأمر مظنون، وقد لا يتفق أن يقع له ذلك المرض الذي يقطعه الكيّ.

ويؤخذ من الجمع بين كراهته -صلى الله عليه وسلم- للكيّ، وبين استعماله له، أنه لا يُترك مطلقًا، ولا يُستعمل مطلقًا، بل يُستعمل عند تعيّنه طريقًا إلى الشفاء، مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى، وعلى هذا التفسير يُحْمَل حديث المغيرة -رضي الله عنه-، رفعه: "مَنِ اكتوى، أو استرقى فقد برئ من التوكل"، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -رحمه الله-: عُلِم من مجموع كلامه -صلى الله عليه وسلم- في الكيّ أن فيه نفعًا، وأن فيه مضرّةً، فلمّا نَهَى عنه عُلِم أن جانب المضرة فيه أغلب، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع، ثم حرّمها؛ لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع. انتهى مُلَخَّصًا.

وقد قيل: إن المراد بالشفاء في هذا الحديث الشفاء من أحد قسمي المرض؛ لأن الأمراض كلها إما ماديّة، أو غيرها، والمادية كما تقدم حارّة، وباردة، وكل منهما -وإن انقسم إلى رطبة، ويابسة، ومركبة- فالأصل الحرارة، والبرودة، وما عداهما ينفعل من إحداهما، فنبَّه بالخبر على أصل المعالجة بضرب من المثال، فالحارّة تعالج بإخراج الدم؛ لِمَا فيه من استفراغ المادّة، وتبريد المزاج، والباردة بتناول العسل؛ لِمَا فيه من التسخين،