للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وكان قد أصاب المعدة أخلاط لَزِجة، تمنع استقرار الغذاء فيها؛ للزوجتها، فإن المعدة لها خَمْل كخمل القطيفة، فإذا عَلِقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها، وأفسدت الغذاء، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط، والعسل جِلاءٌ، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء، لا سيما إن مُزج بالماء الحارّ.

قال: وفي تكرار سقيه العسل معنى طبيّ بديعٌ، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه لم يزله بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوى، فأحدث ضررًا آخر، فلما أمره -صلى الله عليه وسلم- أن يسقيه العسل سقاه مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره عَلِم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أكد عليه المعاودة؛ ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله، واعتبار مقادير الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض، والمريض من أكبر قواعد الطبّ. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللهُ- (١)، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ") إسناد الكذب إلى البطن مجازٌ؛ لأن الكذب يختص بالأقوال، فجَعَل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كذبًا؛ لأن الله تعالى قال: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}، ويقال: العرب تستعمل الكذب بمعنى الخطأ والفساد، فتقول: كذب سمعي؛ أي: زَلّ، ولم يُدرك ما سمعه، فكذب بطنه حيث ما صلح للشفاء، فزَلّ عن ذلك، قاله في "العمدة" (٢).

وقال في "الفتح": قال الخطابيّ وغيره: أهل الحجاز يُطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال: كذب سَمْعُك؛ أي: زَلّ، فلم يُدرِك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه؛ أي: لم يصلح لقبول الشفاء، بل زَلّ عنه. انتهى (٣).

وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللهُ-: وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكذب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمره بتكرار الدواء؛


(١) "زاد المعاد" ٤/ ٣٥.
(٢) "عمدة القاري" ٢١/ ٢٣٤.
(٣) "الفتح" ١٣/ ١١٢، كتاب "الطبّ" رقم (٥٧١٦).