للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ثم لم يبرح عمر -رضي الله عنه- من مكانه حتى جاءه الحقّ ببرهانه، فحدَّثهم عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- بما قاله في ذلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فسُرَّ بذلك عمر -رضي الله عنه- سرورًا ظهر لديه، فحمد الله، وأثنى عليه، حيث توافق الرأي والسمع، وارتفع الخلاف، وحصل الجمع، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة، سالِمًا موفورًا، وكان في سعيه ذلك مُصيبًا مشكورًا.

وعند هذا يَعْلَم الفطن العاقل أن تلك الأقوال التي حُكيت عنه -رضي الله عنه- في ندمه على الرجوع من سَرْغ، ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء، والفرار منه، لم يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يَنْدَم على هذا النظر القويم، ويرجع عن هذا المنهج المستقيم؛ الذي قد تطابق عليه العقل والسمع، واصطحب عليه الرأي والشرع؟! هذا ما لا يكون، فالحاكون عنه هم المتقوِّلون، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- (١)، وهو بحثٌ مفيد، والله تعالى أعلم.

وقوله: (نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ)، وفي رواية هشام بن سعد: "إن تَقَدّمنا فبقدر الله، وإن تأخرنا فبقدر الله"، وأطلق عليه فرارًا؛ لِشَبَهه به في الصورة، وإن كان ليس فرارًا شرعيًّا، والمراد أن هجوم المرء على ما يُهلكه منهيّ عنه، ولو فعل لكان من قدر الله، وتجنبه ما يؤذيه مشروع، وقد يقدّر الله وقوعه فيما فَرّ منه، فلو فعله، أو تركه لكان من قدر الله، فهما مقامان: مقام التوكل، ومقام التمسك بالأسباب.

ومُحَصَّل قول عمر -رضي الله عنه-: نَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله: أنه أراد أنه لم يفرّ من قدر الله حقيقةً، وذلك أن الذي فرّ منه أمر خاف على نفسه منه، فلم يَهْجُم عليه، والذي فرّ إليه أمر لا يخاف على نفسه، إلا الأمر الذي لا بُدّ من وقوعه، سواء كان ظاعنًا، أو مقيمًا. (أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني (لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ، فَهَبَطْتَ) بفتح الموحّدة، يقال: هبط الماء، وغيره هَبْطًا، من باب ضرب: نزل، وفي لغة قليلة يَهْبُطُ هُبُوطًا، من باب قَعَد، قاله الفيّوميّ -رحمه الله- (٢). (وَادِيًا) هو كلُّ منفرج بين جبال، أو آكام يكون منفذًا للسيل، والجمع أوديةٌ، وهو


(١) "المفهم" ٥/ ٦١٧ - ٦١٨.
(٢) "المصباح المنير" ٢/ ٦٣٣.