(المسألة الرابعة): في هذا الحديث جوازُ رجوع من أراد دخول بلدة، فعَلِم أن بها الطاعون، وأن ذلك ليس من الطِّيَرة، وإنما هي من منع الإلقاء إلى التهلكة، أو سدّ الذريعة؛ لئلا يعتقد من يدخل إلى الأرض التي وقع بها أن لو دخلها، وطُعِن العدوى المنهيّ عنها.
وقد زعم قوم أن النهي عن ذلك إنما هو للتنزيه، وأنه يجوز الإقدام عليه لمن قَوِي توكله، وصح يقينه، وتمسكوا بما جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه نَدِم على رجوعه من سَرْغ، كما أخرجه ابن أبي شيبة بسند جَيِّد، من رواية عروة بن رُويم، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:"جئت عمر حين قَدِم، فوجدته قائلًا في خبائه، فانتظرته في ظل الخباء، فسمعته يقول حين تضَوَّر: اللهم اغفر لي رجوعي من سَرْغ"، وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" أيضًا.
وأجاب القرطبيّ في "المفهم" بأنه لا يصحّ عن عمر -رضي الله عنه-، قال: وكيف يندم على فعل ما أمر به النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويرجع عنه، ويستغفر منه؟
قال الحافظ: وأجيب بأن سنده قويّ، والأخبار القوية لا تُرَدّ بمثل هذا، مع إمكان الجمع، فَيَحْتَمِل أن يكون كما حكاه البغويّ في "شرح السُّنَّة" عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصةٌ، ويَحْتَمِل -وهو أقوى- أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهمّ من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون، فيدخل إليها، ويقضي حاجة المسلمين، ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قُرْب، فلعله كان بلغه ذلك، فندم على رجوعه إلى المدينة، لا على مطلق رجوعه، فرأى أنه لو انتظر لكان أَولى؛ لِمَا في رجوعه على العسكر الذي كان صُحْبته من المشقة، والخبر لم يَرِد بالأَمر بالرجوع، وإنما ورد بالنهي عن القدوم، والله أعلم.
وأخرج الطحاويّ بسند صحيح: "عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال