فأصيب، فلو كنت خرجت لَسَلِمت، كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أُصبت، كما أصيب فلان"، لكن أبو موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضًا، ولا شك أن الصور ثلاث: من خرج لقصد الفرار محضًا، فهذا يتناوله النهي، لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة، لا لقصد الفرار أصلًا، ويُتصوَّر ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلًا، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلًا، فلا يدخل في النهي، والثالث من عرضت له حاجة، فأراد الخروج إليها، وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون، فهذا محل النزاع.
ومن جملة هذه الصورة الأخيرة أن تكون الأرض التي وقع بها وَخْمَةً، والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة، فيتوجه بهذا القصد، فهذا جاء النقل فيه عن السلف مختلفًا، فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارًا؛ لأنه لم يتمحض للفرار، وإنما هو لقصد التداوي، وعلى ذلك يُحْمَل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور: "أن عمر كتب إلى أبي عبيدة: إن لي إليك حاجة، فلا تضع كتابي من يدك حتى تُقبل إليّ، فكتب إليه أني قد عرفت حاجتك، وإني في جند من المسلمين، لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فكتب إليه: أما بعد؛ فإنك نزلت بالمسلمين أرضًا غميقة، فارفعهم إلى أرض نزهة، فدعا أبو عبيدة أبا موسي، فقال: اخرُجْ، فارْتَدْ للمسلمين منزلًا، حتى أنتقل بهم … "، فذكر القصة في اشتغال أبي موسى بأهله، ووقوع الطاعون بأبي عبيدة لَمّا وضع رجله في الركاب متوجهًا، وأنه نزل بالناس في مكان آخر، فارتفع الطاعون.
وقوله: "غَمِيقة" -بغين معجمة، وقاف، بوزن عَظيمة؛ أي: قريبة من المياه، والنُّزُوز، وذلك مما يفسد غالبًا به الهواء؛ لفساد المياه، والنزهة: الفسيحة البعيدة عن الوخم، فهذا يدلّ على أن عمر رأى أن النهي عن الخروج إنما هو لمن قصد الفرار متمحضًا، ولعله كانت له حاجة بأبي عبيدة في نفس الأمر، فلذلك استدعاه، وظن أبو عبيدة أنه إنما طلبه لِيَسْلَم من وقوع الطاعون به، فاعتذر عن إجابته لذلك، وقد كان أَمْر عمر لأبي عبيدة بذلك بعد سماعهما