للحديث المذكور من عبد الرحمن بن عوف، فتأول عمر فيه ما تأول، واستمر أبو عبيدة على الأخذ بظاهره، وأيّد الطحاويّ صنيع عمر بقصة الْعُرنيين، فإن خروجهم من المدينة كان للعلاج، لا للفرار، وهو واضح من قصتهم؛ لأنهم شَكَوْا وخم المدينة، وأنها لم توافق أجسامهم، وكان خروجهم من ضرورة الواقع؛ لأنَّ الإبل التي أُمروا أن يتداووا بألبانها وأبوالها، واستنشاق روائحها ما كانت تتهيأ إقامتها بالبلد، وإنما كانت في مراعيها، فلذلك خرجوا، وقد لَحَظ البخاريّ ذلك، فترجم قبل ترجمة الطاعون:"من خرج من الأرض التي لا تلائمه"، وساق قصة العرنيين، ويدخل فيه ما أخرجه أبو داود، من حديث فروة بن مُسيك -بمهملة، وكاف، مصغرًا- قال:"قلت: يا رسول الله، إن عندنا أرضًا يقال لها: أبين، هي أرض ريفنا، وميرتنا، وهي وبئة، فقال: دعها عنك، فإن من القَرَف التَّلَف"، قال ابن قتيبة: القرف: القرب من الوباء، وقال الخطابيّ: ليس في هذا إثبات العدوي، وإنما هو من باب التداوي، فإن استصلاح الأهوية من أنفع الأشياء في تصحيح البدن، وبالعكس.
واحتجوا أيضًا بالقياس على الفرار من المجذوم، وقد ورد الأمر به.
والجواب أن الخروج من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه، والمجذوم قد ورد الأمر بالفرار منه، فكيف يصح القياس؟ انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أطال البحث في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، وقد تبيّن من خلال البحث، حيث ذَكَر الأقوال، وأدلّتها أن الأرجح قول من قال بتحريم الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون، وتحريم الدخول إليه أيضًا؛ لوضوح حجته، واستنارة محجّته، وأما القائلون بالجواز، وكذا القائلون بالكراهة دون التحريم فلم يأتوا بأدلَّة مقنعة تقاوم أدلة الأولين، فلا ينبغي الالتفات إليها، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة السادسة): قد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حِكَمًا:
١ - [منها]: أن الطاعون في الغالب يكون عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع، فالظاهر مداخلة سببه لمن بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعيّنت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا، فلا يليق بالعاقل.