وقال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديث:"من بسط رداءه، ثم ضمه إليه، لم ينس شيئًا سمعه من مقالتي"، وقد قيل في الحديث المذكور: إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة التي قالها ذلك اليوم، لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلًا، وقيل: كان الحديث الثاني ناسخًا للأول، فسكت عن المنسوخ، وقيل: معنى قوله: "لا عدوى" النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب عليه إبلًا جرباء أراد تضمينه، فاحتجّ عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قُدِّر عليها، وما لم تكن تنجو منه؛ لأن العجماء جُبَارٌ، ويَحْتَمِل أن يكون قال هذا على ظنه، ثم تبيّن له خلاف ذلك. انتهى.
قال الحافظ: فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة، وقد بيّنت ذلك رواية يونس التي أشرت إليها، وأما دعوى النسخ فمردودة؛ لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع، وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث، والذي بعده أبعد منه.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كون السبب هو النسيان هو الأقرب؛ لأن الاحتمالات الأخرى لا يخفى ما فيها التعسّف، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
قال: ويَحْتَمِل أيضًا أنهما لمّا كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين، لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يُحَدِّث بأحدهما، ويسكت عن الآخر، حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبيّ في "المفهم"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما، وكان إذا أَمِن ذلك حَدَّث بهما جميعًا.
وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قد جمع أبو هريرة -رضي الله عنه- في هذه الرواية بين قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا عدوى"، وبين قوله:"لا يورد ممرض على مصحّ"، وهو جمعٌ صحيح، لا بُعد فيه؛ إذ كلاهما خبر عن المشروعية، لا خبر عن الوجود، فقوله:"لا عدوى"، أي: لا يجوز اعتقادها، وقوله:"لا يورد ممرض على مصحٍّ"؛ أي: لا يفعل ذلك، فهما خبران يتضمنان النهي عن ذلك، وإنَّما نهى عن إيراد الممرض على المصح مخافةَ الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من