للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ولا طاب لها. وقد ظهر لي وجه خامس -وأنا أستخير الله في ذِكره- وهو: أن النبوَّة معناها: أن يُطلع الله من يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه: إما بالمشافهة، وإما بواسطة مَلَك، أو بإلقاء في القلب، لكن هذا المعنى المسمَّى بالنبوَّة لا يخلق الله به إلَّا من خصَّه بصفات كمال نوعه من المعارف، والعلوم، والفضائل، والآداب، ونزّهه عن نقائص ذلك. ولذلك قال سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: ٧٥]، وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: ١٢٤]، وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠]، وقال: {كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام: ٨٤]، وقال لنبيِّه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤]، فقد حصل من هذا: أن النبوَّة لَمْ يخصّ الله بها إلَّا أكمل خلقه، وأبعدهم عن النقائص. ثم: إنه لمّا شرّفهم بالنبوَّة حصلت لهم بذلك على جميع نوعهم الخصوصية، فلمّا كانت النبوَّة لا يخصّ الله بها إلَّا من حصلت له خصال الكمال أطلق على تلك الخصال نبوّة، كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "التؤدة والاقتصاد، والسَّمت الحسن جزء من النبوة" (١)؛ أي: من خصال الأنبياء، لكن الأنبياء في هذه الخصال متفاضلون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: ٥٥]، وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: ٢٥٣]، فتفاضلهم بحسب ما وُهب لكل واحد منهم من تلك الصفات، وشُرِّف به من تلك الحالات، وكلٌّ منهم الصدق أعظم صفته في نومه ويقظته، وكانوا تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فنائمهم يقظان، ووحيهم في النوم واليقظة سيَّان؛ فمن ناسبَهُم في الصِّدق حصل من رؤياه على الحق؛ غير أنه لمّا كان الأنبياء في مقاماتهم وأحوالهم متفاضلين، وكان كذلك أتباعهم من الصَّادقين، وكان أقلّ خصال كمال الأنبياء ما إذا اعتُبر كان ستًّا وعشرين جزءًا، وأكثر ما يكون ذلك سبعين، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما اختلفت ألفاظ تلك الأحاديث. وعلى هذا: فمن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب كمال نبيٍّ من الأنبياء، كانت رؤياه جزءًا من نبوّة ذلك النبيّ،


(١) تقدّم أنه صحيح باللفظ الماضي.